عزّز الاسلام مفهوم التنمية في تعاليمه الا أنّ تجاهُلها ساعد في هيمنة دول الغرب على الواقع العالمي وفرض شروطه على الشعوب ومنها شعب اللبناني الذي يجب أن يتبنى خطط تنموية مناسبة
التنمية كلمة شاع إستعمالها كثيراً في العصر الحالي؛ ويراد بها: الإرتقاء بالإنسان في حياته المادية والمعنوية: في معارفه وعلومه، وتفكيره وإبداعه، وفي غذائه، وعمله، وعلاجه، وجميع شؤونه. فالتنمية هي ممارسة إقتصادية إجتماعية ثقافية من منظور سياسي معين لجعل حياة شعب من الشعوب تنتقل من واقع متدنٍ إلى واقع أرقى.
وهذا ما دعا اليه الدين الاسلامي اذ حثّت تعاليمه على ضرورة تحسين أوضاع الإنسان، وتحقيق مزيد من الراحة والطمأنينة والكرامة والسعادة له فالإسلام وصّى على صعيد المثال بالحفاظ على الموارد للأجيال القادمة مرتكزاً على قاعدة "لا أخشى على أمتي الفقر بل أخشى عليها من سوء التدبير ."
وقد حاول بعض الكتاب إستنباط مفهوم للتنمية في الإسلام، إستناداً إلى نصوص أو معان قرآنية، فقيل أن التنمية هي طلب عمارة الأرض، وذلك من قوله تعالى «هو أنشأكم من الأرض وإستعمركم فيها» (هود 61) وقيل أن التنمية تعني «الحياة الطيبة»، إشارة إلى معنى الآية الكريمة : «من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون» (النحل: 97) وقيل هي نقل المجتمع من الوضع الذي لا يرضاه الله، إلى الوضع الذي يرضاه.
كما نلحظ في كثير من آيات القرآن حرص الإسلام البالغ على تنمية الإنسان وتنمية موارده الاقتصادية ليعيش حياة طيبة كريمة، هانئة مليئة بالانجاز والعمل الصالح الذي يؤتي ثماره مرتين: مرة في الحياة الدنيا، ومرة في الحياة الآخرة، وهي الحياة التي ترتفع بالمسلم من حد الكفاف إلى حد الكفاية والرفاهية .
ولكن تبقى المشكلة الدائمة في نظرة العالم السطحية للاسلام وعدم تطبيق المسلمين لتعاليمه بدقة وترك العالم الغربي بتينّي واحتكار مفهوم التنمية الذي أصبح الآن يستخدم كآداة للسيطرة على العالم وخاصة على الشعوب المستهلكة والمستعمرة فأصبحت الأطر العامة تسنّها الدول القوية والمقتدرة مثل الولايات المتحدة الاميركية ودول أوروبا حيث لا تنظر للشعوب الّا بعينها التجارية (شركة خاصة) فتقوم بالإستثمار في مجال التنمية لتمرير مشاريعها وأفكارها وبضائعها وللتحكم بالدول والناس كما تمّ تشكيل إطارات عامة تؤتمر بالقوانين والمؤسسات الاميركية من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الذي يشترط على الدول سياسات وإصلاحات عادة ما تخدم مصالحه وتخدع الدول الأخرى بتنفيذ مشاريعها التي تنفذها أو تدعمها الجهات الخارجية وتقوم بانتقاء تلك المشاريع على أساس التنفيذ وليس الابتكار أو تقوية الفرد وتمكينه لتطوير قدراته وإمكاناته وتنحصر المشاريع المستوردة من تلك الدول على البنى التحتية والمشاريع الغير مستدامة لتبقى متحكمة هذه الدول بالناس ويبقوا هم بحاجة لإستمرار حياتهم ومعيشتهم.
أما المسؤولية الكبرى لهذا الاستغلال التنموي في أي مجتمع يبقى على عاتق الدولة فمن واجب الدولة أن ترعى ناسها وتهتم بكافة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية ولكننا هذا ما نفتقده في ظل الوضع العام وتعاقب الحكومات ورؤيتهم للتنمية والإصطفاف السياسي والطائفي والمناطقي وسوء الاهتمام بالقطاعات إذ نرى الإهتمام بالسياحة والخدمات متغافلين عن أهمية قطاع الزراعي والصناعي (التي تخدم أكبر شريحة ممكنة من الناس).
وبحسب الظاهر, فان الدولة اللبنانية مقصّرة في المجال التنموي ومتكلّة على الأحزاب والجهات المانحة التي تعمل كل حسب اختصاصها ورؤيتها للمسائل.
ترتكز السياسات المتّبعة من قبل الدولة في بلدنا ومنذ زمن بعيد على جعل اقتصاد لبنان يعتمد على قطاع الخدمات مختزلةً الإهتمام بالموارد ومتطلبات المجتمع وهذا ما تدلّ عليه الموازنات المرصودة لوزارات الدولة اذ أنها تخصّص فقط لقطاع الزراعي 0,4% من موازنتها ناهيك عن الضرائب العشوائية التي تفرضها الدولة على كافة الناس وخاصةً الكادحين وعدم فرضها على المستثمرين وأصحاب المشاريع الكبرى.
ومن أخطاء الفادحة للدولة أنّها تحصر التنمية بمشاريع الحجر وتستثني البشر فهي تنفذّ التنمية وتقوم الإستدانة لتنفيذها مشاريع كبرى ومكلفة (تكبير المطار - الأوتسترادات - ....).
فلذلك يجب العمل على بعض أساسيات الأمور التي تساهم في تطوير الإنسان والفرد وتعزيز إمكاناته وهذا بالنظر إلى إمكاناتنا وجهوزيتنا خاصةً أنّ مجتمعاتنا هي مجتمعات فقيرة ومحرومة على مرّ الزمن , وتطويرها وتحسين إمكاناتها تحتاج إلى عمل دائم , ومثابرة لتحقيق التطور والتنمية .
وهذا يعتمد على رؤية وخطط إستراتيجية تقرّها الدولة تشمل كل المناطق اللبنانية وأن تأخذ بعين الاعتبار خصائص كل منطقة .
فالخطة التي تطبّق على المناطق المحررة تختلف عن غيرها من المناطق خاصة أنها تعاني بدورها وضعاً اقتصاديا ضاغطا نتيجة لمعاناتها الطويلة مع الاحتلال والاهمال، وقد تزايدت هذه المعاناة مع غياب اي سياسة تنموية اقتصادية حقيقية، و تسليم زمام الأمور للبلديات التي اصطدمت بسلسلة من القوانين والاجراءات .
موضوع التنمية هو موضوع إستراتيجي يهدف لوقف انتشار الظلم والفقر وعليه يتوجب تجميع القدرات في سبيل تأمين عيش كريم لاهلنا, كما يجب تحديد اولويات تنموية في مناطقنا بعد بحث الواقع عن الارض واقامة ورش عمل مع المجتمع المدني والمحلي للخروج بحاجات المناطق للسعي لتبنيها من كافة الافرقاء: الدولة-البلديات-الجهات المانحة-وذلك لتحقيق الانماء ورفع الغبن والفقر عن الناس.
التنمية لا تتحقق بمفهومها العلمي والشامل وببعدها المحلي والوطني إلا من خلال مشاركة جميع العناصر الفاعلة في المجتمع، لما تنطوي عليه هذه المشاركة من أهمية في تعديل السلوك الإجتماعي للمواطنين وفي بناء معايير وقيم إيجابية تقوم على التضامن الإجتماعي والمشاركة الشعبية في التنمية النابعة من الإحتياجات الحقيقية للأهالي، فيتحقق بالتالي الإنتماء الفعلي لدى المواطنين ويتم بناء علاقة تعاون وثقة بينهم وبين السلطة المحلية والوطنية.
من الضروري الإستفادة من مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات المحلية (مفهوم الرأسمال الإجتماعي) لتحقيق مفهوم المشاركة في العمل البلدي وعملية التنمية المحلية وهنا تطرح بعض الأسئلة حول مدى إمكانية تطبيق هذين المفهومين في مجتمعات ما زالت تحكمها العلاقات الضيقة والإنتماءات الأولية .
لذا يشكل إعطاء حق التعبير للناس عبر زيادة مستويات مشاركتهم تحدياً رئيسياً يواجه عملية التنمية. فالمشاركة تُمكّن المجتمع من الاستخدام الأمثل لطاقات وقدرات أفراده وجماعاته المنظمة، وتعطي دوراً أكبر للمجتمع المدني، وتمكّن المواطنين من المشاركة في بنية السلطة ومن التأثير على السياسات الاجتماعية. كما تحرر المشاركة قدرات المرأة وتفسح في المجال أمام تنمية يشارك بها الجميع نساءاً ورجالاً.
وبالنظر الى الواقع البلدي اللبناني اليوم، نلاحظ أن الحاجز النفسي لا يزال قائماً ما بين معظم البلديات والناس، نتيجة النقص في التعاطي ما بين البلدية وأبناء المجتمع .
ولا تتلخص المشكلة فقط في البلديات بل أيضاً في الناس الإتكاليين الذين لا يرون جدوى في المشاركة الأهلية هناك فعلاً تدن في عدد الأفراد المبادرين في المجتمع اللبناني، وهذا الأمر يلزمه قيادات ومواطنون واعون يراقبون ويحاسبون ويشاركون في رسم الخيارات والمصالح المشتركة... وأن التنمية والتغيير ينطلقان من العمل المحلي، قادر على تقرير مستقبله ومستقبل أولاده لتأمين إستمراريته الإجتماعية والإقتصادية،وهو بحاجة أيضاً الى وعي إجتماعي ومبادرة فردية وجماعية وتعاضد متكامل ضمن المجتمع الواحد.
ويمكن معالجة هذه المشكلة من خلال تحقيق النضج المدني حيث يحتاج العمل البلدي الى إعتماد العمل الجماعي المنتج والشجاع والرائد ،وكذلك من خلال إشراك الشباب في الحقل العام. وإن مشاركة الشباب في الحقل العام هي حتى الآن حق مهدور في لبنان - خاصة وأن الشباب دون الواحد والعشرين محرومون من حق الترشح والإنتخاب على المستويين البلدي والوطني...إضافة إلى مشاركة المرأة في الشأن العام التي تعدّ مؤشراً الى مستوى التطور الإجتماعي والثقافي والسياسي في المجتمع، وركيزة أساسية من ركائز التخطيط للتنمية الإجتماعية والإقتصادية والسياسية التي يجب أن تنظر الى المرأة كإنسان منتج وطاقة خلاقة.