كيف تنجح التعاونيات.. التجربة الإيطالية؟

كيف تنجح التعاونيات.. التجربة الإيطالية؟
كيف تنجح التعاونيات.. التجربة الإيطالية؟:إيميليا رومانا هى مقاطعة (محافظة) تقع فى شمال شبه الجزيرة الإيطالية ويبلغ عدد سكانها حوالى 3.9 مليون نسمة وهو ما يمثل 7% من مجموع سكان إيطاليا. فى المقابل تنتج المقاطعة 9% من الناتج المحلى لإيطاليا وتصدر 12% من ... التف

إيميليا رومانا هى مقاطعة (محافظة) تقع فى شمال شبه الجزيرة الإيطالية ويبلغ عدد سكانها حوالى 3.9 مليون نسمة وهو ما يمثل 7% من مجموع سكان إيطاليا. فى المقابل تنتج المقاطعة 9% من الناتج المحلى لإيطاليا وتصدر 12% من صادراتها وهى مسئولة عن 30% من براءات الاختراع الصادرة فى إيطاليا. وفى حين تمثل البطالة مشكلة متنامية فى إيطاليا وأوروبا بصفة عامة فتبلغ نسبتها أكثر من 8% فإن إيميليا رومانا تفخر بأن نسبة البطالة بها لا تزيد على 3% فقط!
هذه المقاطعة التى كانت فى أعقاب الحرب العالمية الثانية واحدة من أفقر الأقاليم فى إيطاليا وأوروبا هى اليوم بين المناطق الأكثر ثراء فى العالم. هذا التحول الكبير حققته إيميليا رومانا من خلال تجربة متميزة اختارت فيها بديل التعاونيات للاعتماد عليه فى تحقيق تنميتها الاقتصادية.
أكثر من نصف سكان المقاطعة هم أعضاء فى مؤسسات تعاونية تغطى مختلف أشكال النشاط الإقتصادى (استهلاكى ــ خدمى ــ إنتاجى). ويبلغ عدد هذه المؤسسات أكثر من 420 ألف مؤسسة تتفاوت فى حجمها بين المتناهى فى الصغر والصغير والمتوسط. ويعمل فى تعاونيات العمال (أى المؤسسات التعاونية الإنتاجية التى يديرها عمالها) أكثر من 10% من قوة العمل بالمقاطعة وينتجون أكثر 30% من إنتاجها وتصل مساهمتهم فى إنتاج بعض المدن إلى 60%.
العدد الكبير لتعاونيات الإسكان والتعاونيات الاستهلاكية فى إيميليا رومانا يحافظ على معدلات مناسبة لأسعار السلع وتكاليف السكن. أما فى ظل توجه الحكومة الإيطالية عبر العقود الماضية إلى خصخصة الخدمات فإن غالبية هذه الخدمات انتقلت من ملكية الدولة إلى ملكية التعاونيات ويصل نسبتها فى مجال الخدمات الصحية إلى 60% وهو ما حمى السكان من الآثار السلبية لخصخصة هذه الخدمات على مستوى معيشتهم.
النجاح الكبير للتعاونيات فى إيميليا رومانا لم يأت من فراغ بالطبع فهو يقوم أولا على وجود جذور تاريخية للعمل التعاونى تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر ولكن هذه البدايات الأولى لم تحقق نجاحا كبيرا نتيجة لعداء الرأسمالية المحلية والحكومات المتعاقبة لها وكانت أسوأ مراحل اضطهادها هى مرحلة حكم الفاشية فى ظل الديكتاتور موسولينى. هذا الوضع تغير بعد الحرب العالمية الثانية فقد أفرد الدستور الإيطالى المكتوب فى عام 1947 نصا خاصا للتعاونيات اعترف أولا بأهمية دورها الاجتماعى وأعلن عن التزام الدولة برعاية نمو وانتشار التعاونيات من خلال القوانين المنظمة لعملها.
القانون الموحد للتعاونيات فى إيطاليا والذى صدر لأول مرة فى عام 1947 أيضا ترجم هذه الرعاية التى نص عليها الدستور بشكل عملى. فقد منح هذا القانون التعاونيات معاملة ضريبية خاصة لتشجيع نموها اعتمادا على التمويل الذاتى. هذا التمويل الذاتى يعتمد على سياسة تسمى بالصناديق الغير قابلة للتقسيم. وفق هذه السياسة يمكن للتعاونيات الاحتفاظ بجزء من عائداتها فى صناديق خاصة تتمتع بإعفاء ضريبى يصل إلى 40%. فى المقابل فإنه فى حال تم حل التعاونية أو بيعها لا يجوز التصرف فى إيداعات هذه الصناديق بل تنتقل إلى تعاونية أخرى قائمة أو جديدة. هذه السياسة تضمن أن الدعم الذى تحصل عليه التعاونيات يظل دائما فى خدمة نموها وللأجيال الجديدة من أعضائها وهو يتيح تجميع عائداتها لتمويل توسعاتها أو إنشاء الجديد منها.
يتيح القانون أيضا لأعضاء التعاونيات السيطرة على شئونها المالية والقرارات الإستراتيجية حيث يختص بذلك جمعياتها العامة التى ينص القانون على أن تجتمع مرة واحدة على الأفل كل سنة لمناقشة الميزانية وينص أيضا على انتخاب مجلس إدارة المؤسسة مرة واحدة كل ثلاثة أعوام على الأكثر. وفى الواقع العملى تجتمع الجمعيات العمومية للتعاونيات فى إيطاليا أكثر من مرة كل عام وشهريا فى بعض الأحوال.
تميز إيميليا رومانا عن غيرها من المقاطعات الإيطالية رغم استفادتها جميعا من نفس الميزات التى يمنحها القانون الإيطالى نتج عن اللا مركزية فى الحكم فاختارت الحكومات المتتابعة للمقاطعة أن تعتمد على نمط التنمية التعاونى لانتشال المقاطعة من موقعها ضمن الأكثر فقرا فى أوروبا واستخدمت لذلك نمطا عمليا لدعم نمو وانتشار التعاونيات. فأهم ما قد يعيق التعاونيات كمؤسسات صغيرة الحجم بطبيعتها هو افتقادها إلى المميزات التى تحصل عليها فقط المؤسسات الكبيرة وهى ما يطلق عليها فى مجملها اقتصاديات الحجم. للتغلب على هذه المعوقات دعمت حكومة الإقليم إنشاء مراكز للتنمية الصناعية تقوم بتوفير الخدمات التى لا تتوافر عادة إلا للمؤسسات الكبيرة. فهذه المراكز تقدم للاتحادات التعاونية ما تحتاجه فى مجالات البحث والتطوير وشراء مستلزمات الإنتاج وتوفر فرص التعليم والتدريب للعمال والمشاركين فى التعاونيات وتشرف على إجراءات السلامة والأمان فى أماكن العمل كما تتيح فرصة تسويق وتوزيع وتصدير السلع والخدمات التى تنتجها التعاونيات بشكل جماعى.
تدعم هذه المراكز أيضا نمطا للتكامل بين التعاونيات يسمى بالتصنيع المرن حيث يجتمع عدد من التعاونيات صغيرة الحجم للتشارك فى المنافسة على عطاءات ومناقصات لمشروعات أو عمليات توريد كبرى وتؤدى هنا مراكز التنمية الصناعية دور أشبه بالمكتب الفنى الذى ينسق بين التعاونيات فى إعداد عطائها المشترك وفى عملها لتنفيذه أيضا.
الجانب الأكثر خطورة لدعم نمو التعاونيات يكمن فى توفير خدمات مالية تتوافق مع نمط عملها، وفى التجربة الإيطالية وغيرها من التجارب الناجحة يعتمد هذا على السماح للتعاونيات بإنشاء مؤسساتها المالية الخاصة بها أو ما يسمى بالاتحادات الائتمانية، فالتعاونيات بحكم طبيعة تكوينها وبحكم القوانين المنظمة لها لا يمكنها الاعتماد على البنوك التجارية للحصول على التمويل وخدمات الإقراض والائتمان ولذا فهى فى حاجة إلى تجميع عائداتها فى اتحاداتها الخاصة والتى تستخدم هذه العائدات لتوفير التمويل للتعاونيات الجديدة وللتوسع فى القائمة وفى إقراض التعاونيات لأغراض التحديث أو الإنفاق على مشروعاتها وفى خدمات الائتمان اللازمة للمنافسة على العطاءات والمناقصات.
التجربة الإيطالية فى التعاونيات رغم تميزها ليست نادرة ولها مثيلاتها فى الغرب الصناعى وفى الجنوب النامى أيضا وخاصة فى دول أمريكا اللاتينية وعوامل النجاح التى مررنا بها بسرعة هى قاسم مشترك بين مختلف التجارب وجميعها يمكن تكراره وتوظيفه فى بلادنا خاصة وأن تجربتنا طوال 40 عاما من الانفتاح الاقتصادى قد أثبتت بوضوح أن الاعتماد على الاستثمار الخاص أجنبيا كان أو محليا لقيادة عملية التنمية يؤدى بالضرورة إلى خلل كبير فى توزيع ثمار هذه التنمية وهو ما يظهر فى التفاوت الهائل فى الدخول وتزايد معدلات الفقر والبطالة. هذه الأمراض الاجتماعية لا سبيل إلى إنكار ارتباطها بنمط التحرر الاقتصادى وإنفراد الاستثمار الخاص بإدارة التنمية فهى تصحبه فى كل مكان ويمكن تفسيرها بأن هذا النمط من التنمية يعتمد وحسب على تعظيم الأرباح على حساب نصيب المجتمع من عائدات التنمية. فى المقابل تطرح التعاونيات بديلا ثبت نجاحه لتنمية هدفها الإنسان والمجتمع قبل الأرباح وهذا تحديدا ما يحتاجه مجتمع عانى طويلا من كون الإنسان فى ذيل أولويات حكامه وصانعى القرار فيه.

موقع الشروق الالكتروني