دبس العنب صناعة لبنانية بامتياز. مزارعو لبنان يجزمون بأنك لن تجده في أي مكان آخر، بل ـ وللأسف ـ قد لا يجده أحد ...
دبس العنب صناعة لبنانية بامتياز. مزارعو لبنان يجزمون بأنك لن تجده في أي مكان آخر، بل ـ وللأسف ـ قد لا يجده أحد عمّا قريب في لبنان أيضاً. هذه الصناعة التراثية يبدو أنها على طريق الانقراض، مع 3 معاصر باقية فقط من أصل المئات، وفي ظل شكاوى من الدولة التي لا تدعم هذه الزراعة - التراث
«كل شي فرنجي برنجي». مقولة شعبية رددتها سهام، مباشرة، بعد رؤيتها لأول مرة معاصر الدبس في راشيا الوادي. جاءت، ومعها أولادها، إلى المعاصر الثلاث الباقية في القرية، فلم تستطع إخفاء دهشتها، لتقول: «لو هاي الصناعة موجودة بالغرب كنا شفنا المئات من المعاصر بضيعنا، وكان إلها قيمة أكثر، بس لأنها من التراث اللبناني ما بيعطوها حقها». لماذا تقلصت أعداد هذه المعاصر؟ سألت بعفوية. جاءها الجواب من أحد المزارعين، الذي كان واقفاً إلى جانبها، قائلاً: «هناك أشخاص يعملون بها ليس من أجل المردود المالي، بل لأنهم يعدّونها إرثاً عن آبائهم وأجدادهم، وهذا ما يحفزهم للحفاظ عليها... على أمل أن تنتبه إلينا الدولة وتعرف قيمة هذه المعاصر عندنا».
حال صناعة الدبس في لبنان، كما الكثير من الصناعات الريفية التي شبت عليها أجيال واجيال، فبعدما كانت عاملاً أساسياً في ضمان أمن الناس الاجتماعي والاقتصادي، حلّت الآلات الجديدة وبات «التراث» شيئاً مستهجناً، كما هي الحال مع صناعة الفخار والنحاسيات والدباغات.
يعرف بهاء القضماني، صاحب معصرة في راشيا، كيف يسترسل في سرد واقع صناعة دبس العنب وأهميته الغذائية. يتحدث عن «مخاطر اندثاره على الزراعة والتراث اللبناني، فهذه الصناعة لبنانية بامتياز، فلا تجدها في أي بلد آخر. في القدم لم تكن تخلو قرية من معصرة، بدأها اللبنانيون منذ نحو 500 سنة، لما لها من فوائد غذائية، فكان الدبس من أهم المزينات للمائدة القروية، وخوابي الفخار تشهد على الدبس الذي كان يموّن للشتاء». يعود قضماني إلى حقبة ثمانينيات القرن الماضي، عندما بدأت ظاهرة اندثار المعاصر، حتى «أصبح عددها في لبنان لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. ففي راشيا كان هناك 32 معصرة، أما اليوم فلا يوجد سوى 3 فقط». قد تنقرض هذه المعاصر قريباً للأسف، وخاصة في ظل غياب دعم زراعة العنب، هذه الصناعة التي يطالب المزارعون الآن بتداركها قبل تلف عنبهم في «العشر الأخير» من موسم العنب في بداية الشتاء.
الدبس بين الأمس واليوم
تزدحم معصرة راشيا الحديثة بالمزارعين، وبأقفاص العنب التي تنتظر الدور على مدخل قسم العصر. هذه الصناعة تُعَدّ بالنسبة إلى المزارعين ملاذاً آمناً لهم، يعوض عليهم ما قد يصيبهم من خسائر إن حل الشتاء على عنبهم. يشرح الشيخ سهيل القضماني، صاحب معصرة أخرى ورثها عن أجداده، المراحل التاريخية والانتقالية التي مرت بها هذه الصناعة. يقول: «عمر هذه الصناعة في بلادنا لا يقل عن 500 سنة، لدينا آثار ما زالت قائمة للمعاصر الحجرية القديمة في الجرد. سابقاً كان أجدادنا يعتمدون على برودة الصخر لحفظ عصير العنب، وهو في طريقه إلى «الخلاقين» قبل غليه على الحطب. اليوم تطورت الآلات». يشرح المزارع أنه في السابق كانت عملية عصر العنب عبر دوسه بالأقدام، في أجران صخرية، أما اليوم فاستحدثت آلات أشبه بالمطحنة لعصر العنب. يقول قضماني: «إن جميع هذه المعدات هي صناعة وطنية ومستحدثة ـ باعتبار أنه لا مكان آخر يعتمد هذا النوع من صناعة دبس العنب، لذا نصنع كل معداتنا بجهدنا الخاص. استحدثنا «خلاقين» (أوعية كبيرة) تعمل على البخار، لا النار، لضمان نسبة الغليان لكافة العصير، بطريقة علمية وصحية، ومن ثم يُنقَل بعد فحصه إلى المبرد ويُعبّأ. المبرد مصنوع من طبقتين من الستانلس، وهو مجهز لأن يبرد الدبس من طريق الماء، خلافاً لما كان سابقاً عن طريقة مروره داخل الصخر المبرد من أطرافه بالماء». هكذا، نحن أمام «تراث» حقيقي، بكل ما للكلمة من معنى، ربما استحق أن تسجل طرقه الفنية والإبداعية اليوم قبل اندثاره، ولكي يكون هناك ذكرى منه تراها الأجيال المقبلة.
يوضح صاحب المعصرة أن عملية التبريد هي التي تتحكم بأن يكون الدبس بدرجة سائل تماماً أو أقرب إلى «السماكة». هناك طريقة ثانية لتبريد الدبس أيضاً، فعندما يكون في درجة حرارة 110 مئوية في عبوات زجاجية (أطرميزات)، تغلق فوراً بعد التعبئة وتوضع في مستوعب ماء يبرّد بها، من أجل الوصول إلى دبس سائل. أما الدبس السميك والجاف، فيُخفَق بخفّاقات مستحدثة أيضاً وفق طريقة معينة. يتحدث مزارع العنب عن أهمية افتتاح المعصرة بداية الشتاء، وذلك «كي لا يفقد العنقود حلاوته، التي تراوح بين 14 وتصل إلى 28 درجة. هناك عنب لم يكتمل نموه، وعناقيد تحتاج التمليس (أي تنقية الحبات المضروبة)، فبدلاً من تلفه نعصره، مهم جداً وجود المعاصر في أوقات تراجع نسبة الصادرات إلى الخارج».
من تمنين إلى راشيا
يقطع المزارع هولو إبراهيم من تمنين في بعلبك حتى راشيا الوادي عشرات الكيلومترات، دائماً، لكي يعصر عنبه. فاليوم لا معاصر في بعلبك، والبقاع الأوسط، رغم انتشار مساحات واسعة من كروم العنب فيها. يقول إبراهيم: «المعصرة رحمة لنا بعدما سدت أمامنا جميع أبواب تصريف الإنتاج، وخاصة في أواخر الموسم، فلم يعد أمامنا إلا خياران، إما أن يبقى على أمّه (بلا قطاف) ويتلف أو أن أبيعه بأبخس الأسعار، ولهذا اقترح علي صديق أن أعصره دبساً، وهكذا كان».
أما سميح مغامس، فله نظرة مختلفة، انطلاقاً من مقاربته بين الأكلاف وسعر كيلو الدبس، فيقول: «نحن نهرب إلى المعصرة من الخسائر لنعوض شيئاً من ثمن العنب، باعتباره أن إنتاج الدبس مكلف جداً... 25 كيلو عنب كلفة عصرها 8 آلاف ليرة، فضلاً عن كلفة قطفها ونقلها، ليباع كيلو الدبس بين 7 و8 آلاف ليرة، فإذا كان كل 5 كيلو من عنب بيعملو كيلو دبس فكيف بدا توفي معنا؟». من هذه المقاربة يطالب المزارع بضرورة دعم قطاع زراعة العنب، وذلك عبر «التعاون بين وزارات الاقتصاد والسياحة والزراعة للترويج لصناعة الدبس، انطلاقاً من كونه تراثاً لبنانياً، ولما لهذا من انعكاسات إيجابية على المزارعين، وخصوصاً الفترة الزمنية من الربع الأخير من موسم العنب».