حرب القبارصة لاسترداد جبنة الحلوم بدأت فهل يردّ اللبنانيون باحتكار اللبنة؟: قريباً لن يكون بإمكان اللبنانيين أكل جبن الحلوم إلا بشروط. لن يكون ذلك نتيجة لغلاء أسعار مرتقب فيها ولا لتطوير اللبنانيين جميعاً حالة من الحساسية ضدها تمنعهم من أكلها ولا بسبب قرار حكو
قريباً لن يكون بإمكان اللبنانيين أكل جبن الحلوم إلا بشروط. لن يكون ذلك نتيجة لغلاء أسعار مرتقب فيها ولا لتطوير اللبنانيين جميعاً حالة من الحساسية ضدها تمنعهم من أكلها ولا بسبب قرار حكومي بمنع إنتاجها أو أكلها مع الخيار والطماطم أو مشوية. سيكون قريباً على اللبنانيين أن يأكلوا الحلوم القبرصية فقط أما «حلومهم» فسيأكلونها من دون أن يجرؤوا على تسميتها باسمها. قريباً سيختفي اسمها من قاموسنا كأحد الأجبان التي نعتز بتصنيعها، وقد تصبح الإشارة إليها أو طلبها على قائمة المقبلات في المطاعم بعبارة «هيديك الجبنة»، تماماً كما كان الخوف من مرض السرطان يجعل اللبناني لا يذكره إلا بعبارة «هيداك المرض». وانطلاقاً من طبيعة اللبناني الحذق وقدرته على الابتكار قد نجد التلفزيونات تركت برامج الواقع الباحثة عن مطرب أو عريس إلى برامج مسابقات للبحث عن اسم لهذا الجبن بديلاً عن كلمة «حلوم». هذا ليس سيناريو فيلم خيال علمي بل واقع نتجه إليه من دون أن ندري وقد يتحقق بأسرع مما نتصور.
فقد بدأت قبرص بالفعل إجراءات من أجل تسجيل الجبن الحلوم باسم الجزيرة تحت القانون الأوروبي لحماية اسم المنشأ المميز للمنتج أو "Protected designation of Origin". وهو قانون يحمل أيضاً أسماء «حماية الاختصاص التقليدي» (traditional specialty Guaranteed TSG) أو حماية المؤشرات الجغرافية (Protected geographical indication PGI) وضعه الاتحاد الأوروبي وبدأ العمل به في العام 1992 من أجل حماية سمعة المنتجات الغذائية المناطقية وإزالة أية منافسة مخادعة أو مضللة للمستهلك من قبل منتجات غير أصلية وأقل قيمة في النوعية من المنتج الأصلي وإن كانت تحمل اسمه.
ويشرح أستاذ الأنظمة البيئية في الجامعة الأميركية د. رامي زريق على مدوّنته "land and people" أنه «في حال حصلت قبرص على هذه الحماية للحلوم بموجب هذا القانون فإنه سيكون بإمكان مصنعي الأجبان اللبنانيين الاستمرار في تصنيع الحلوم وإنما من دون أن يسموها كذلك».
وقد بدأ هذا القانون بحماية المشروبات الروحية لكنه ما لبث أن امتد إلى أنواع أخرى من المنتجات الغذائية والتراثية كالجبنة والنقانق والزيتون وحتى أنواع الخبز والفواكه المحلية. فمأكولات مثل «غورغونزولا» (لحم مقدّد إيطالي المنشأ) وجبنة بارميزان وكاممبير أو روكفور لم يعد من الممكن أن توضع عليها هذه الأسماء إلا إذا كان منشأها المنطقة الجغرافية التي بدأت بتصنيعها في الأساس وتحمل اسمها. وهو ما يؤمن ما يشبه قوانين حماية الملكية الفكرية التي تطبق على مختلف أنواع الإنتاج الفكري من اختراعات وأدوية وكتب وموسيقى وأفلام وبرامج معلوماتية إنما في حالة «المؤشرات الجغرافية» لا يتمتع «المخترع» بحق استغلال اسم المنتج، أكان مصنعاً أو مزروعاً، وإنما المؤسسات والأفراد المنتمون من المنطقة الجغرافية التي ينسب إليها المنتج والذي اكتسبوا خبرة في إنتاجه بالتوارث عن الأجداد. وهو أمر من شأنه أن يحمي الصناعات والمعارف والثقافة الغذائية التقليدية التي ورثتها الشعوب عن أسلافها ويؤمن استمراريتها من خلال تشجيع أبناء هذه المناطق على استغلال معارفهم في التنمية.
للحماية سلبيات؟
لعل أبرز الأمثلة التي شهدت نقاشاً حولها في السنوات القليلة الماضية كان قضية جبن «فيتا» التي حصلت اليونان في العام 2005 على قرار نهائي بحمايتها بموجب قانون حماية المؤشرات الجغرافية الأوروبي الذي يمنع وضع اسم «فيتا» على أي منتج من هذا النوع من الجبنة ما لم يكن مصدره اليونان. وكانت اليونان قد دخلت في صراع طويل منذ العام 1996 مع دول أوروبية أخرى تصنع هذه الجبنة مثل ألمانيا وفرنسا والدانمرك من أجل منع صدور قرار الحماية هذا. واستندت الدول المعترضة في حينها إلى المبدأ نفسه الذي يسمح لشركات الأدوية من تصنيع دواء ما تحت اسمه الجنيسي أو الأصلي (generique) مما يحررها من احتكار الشركات الكبرى لهذا التصنيع باعتبار أن كلمة «فيتا» هي اسم نوع أو طابع لا يمكن احتكاره. غير أن قراراً نهائياً صدر في تشرين الأول من العام 2005 أكد قرار الحماية واحتكار اليونان لتسويق جبنة «فيتا» تحت هذا الاسم. واعتبر القرار أن هذا النوع من الجبنة «هو ثمرة تقاليد الأسلاف في هذه المراعي» و«أن أنواعاً محددة من النباتات في بعض مناطق اليونان هي التي تعطي هذا النوع من الجبن مذاقاً ورائحة مميزتين». وبالتالي أصبح أمام مصنعي هذه الجبنة في باقي الدول حتى تشرين الأول المقبل من أجل إلغاء كلمة «فيتا» تماماً عن كل منتجاتهم.
لكن يبدو أن هناك من يرى في هذا المشروع مشاكل تطبيقية قد لا تكون دائماً في مصلحة الحفاظ على التراث الغذائي أو القروي. إذ تشير دراسة نشرها موقع Agritrade إلى وجود عوائق عدة يمكن أن تنعكس سلباً على عمليات التسجيل والفكرة ككل عددها على الشكل التالي:
ـ إمكانية استغلال التعقيدات التي ترافق عمليات التسجيل
ـ قد يكون من حق المهاجرين أن يستمروا في إنتاج المنتجات التي تصنع في بلدهم الأم.
ـ قد يحتاج الكثير من المنتجين إلى إعادة تسمية منتجاتهم بأسماء جديدة كي يضمنوا استمرار عملهم.
ـ المكونات هي التي تحدد المنتج النهائي في بعض الأحيان، وليس المكان الذي يتمّ تجميعه فيه.
ـ بعض الكلمات العامة المستخدمة في الدلالة على طعام ما هي أيضاً أسماء أماكن بالرغم من أن هذا الطعام لم ينتج أبداً فيها (مثل Sandwich وHam وBeer).
قانون حماية لبناني قريباً؟
بالرغم من أن قانون حماية المؤشرات الجغرافية هو قانون أوروبي وينبغي نظرياً أن يسري على دول الاتحاد فقط وعلى المنتجات المستوردة إليه من دول خارج الاتحاد، إلا أن الواقع ليس كذلك. فنظرياً لا يفترض على المصانع التي تنتج هذه الجبنة وتسوقها خارج دول الاتحاد مثل لبنان أن تلتزم بقرار المنع. لكن في الواقع تلتزم دول عدة باتفاقيات ثنائية مع الاتحاد الأوروبي وتجمعات اقتصادية أخرى تطبق هذا القانون مما يعطيه قوة تنفيذية بالنسبة لبعض المنتجات خارج حدود الاتحاد.
وهو الحال بالنسبة للبنان الذي انطلق فيه مشروع «حماية المؤشرات الجغرافية اللبنانية» في حزيران 2004 وحصل على تمويل من سويسرا لمدة ثلاث سنوات بقيمة 350 ألف فرنك سويسري، وذلك على إثر توقيعه اتفاقية تجارة حرة مع بلدان الافتا (سويسرا، ليشتنشتاين، النروج وايسلندا) التي تشمل السلع الصناعية بما فيها السمك وغيرها من السلع البحرية بالاضافة الى السلع الزراعية المصنعة والتي تندرج من ضمنها بعض السلع المؤهلة، لأن تكون مشمولة بقانون حماية المؤشرات الجغرافية.
وقد شكلت وزارة الاقتصاد والتجارة لجنة مؤشرات جغرافية عملت على تجميع منتجات لبنانية مؤهلة للحماية ووضع مشروع قانون قدمته الوزارة إلى مجلس الوزراء الذي وافق عليه في في جلسة المجلس بتاريخ 21 أيار الماضي. لكن السؤال المطروح هو هل سيعترف بقرار مجلس الوزراء الموافقة على القانون في ظل التجاذب السياسي الحاصل؟ وماذا لو سبقتنا دول الجوار إلى ذلك؟
وقد نشرت وزارة الاقتصاد والتجارة في نيسان الماضي دراسة محلية جمعت المنتجات اللبنانية التي يمكن أن تكون مؤهلة في المستقبل لهذه الحماية. ومن هذه المنتجات نذكر: لبنة الضرف البعلبكية أو اللبنة الخضراء، لبنة شتورة، لبنة تعنايل، شنكليش رحبة، كشك بعلبك، زعتر الجنوب أو زعتر الليطاني، ملوخية عربصاليم وملوخية كفر رمّان، زيت زيتون الكورة وزيت زيتون حاصبيا وزيت زيتون زغرتا وصور، مشمش بعلبك وخوخ بكفيّا وإجاص الضنّية وتفاح كفرذبيان وميروبا وبسكنتا، وبصل كفرفيلا والعيشية، وعدس سحمر ويحمر وخس الجيّة وبطيخ عدلون وخيار جبيل وغيرها من المنتجات المرتبطة بمناطق جغرافية في لبنان. لكن يبدو أن الهدف الأول من بدء هذا المشروع هو هدف اقتصادي أكثر منه هدف لحماية العادات والحفاظ على التراث الغذائي في لبنان. فبحسب الوزارة «يهدف مشروع «حماية المؤشرات الجغرافية اللبنانية» إلى مساعدة السلطات اللبنانية على إيجاد نظام ملائم للمؤشرات الجغرافية (...) نظراً إلى زيادة التجارة العالمية للسلع الزراعية، حيث تشكّل المؤشرات الجغرافية أداة فعّالة لتسويق المنتجات اللبنانية على الصعيد المحلي والعالمي، كما وأنها تشكّل حافزاً للتطور الريفي».
في المقابل، وفي وقت تشكل الهجمات الغذائية الخارجية أقوى وسائل العولمة في تسطيح العالم وجعله أكثر تجانساً بإزالة فرادة مطبخ كل منطقة يبدو أن الهدف الأول لمشروع كهذا ينبغي أن يكون حماية التراث الغذائي للبنان والعمل أكثر في البحث عن المزايا الصحية الكامنة في مطبخه لا سيما المطبخ القروي، لما في ذلك من أثر في إحداث ردة جماعية واجتماعية نحو المطبخ الصحي. أمر من شأنه أن يعزز حضور وإنتاج هذا النوع من المأكولات والمنتجات داعماً بذلك الاقتصاد من منطلق الصحة الغذائية وليس العكس.
* الضرف هو جلد ماعز يخيطونه على شكل جراب ويستخدمونه لأغراض مختلفة منها صناعة الجبنة واللبنة.