قصور الوعي والتنمية المستدامة في لبنان (2): إذا قاربنا حقيقة ما ينفذ من مشاريع إنمائية، وعملنا على دراسة جدواها الاقتصادية والاجتماعية، وقارناها مع ما يساق من بيانات وتصاريح، لاكتشفنا سريعاً ان حدود ما سيق من كلام حول التنمية في لبنان، لا يتعدى الإطار اللفظي ا
إذا قاربنا حقيقة ما ينفذ من مشاريع إنمائية، وعملنا على دراسة جدواها الاقتصادية والاجتماعية، وقارناها مع ما يساق من بيانات وتصاريح، لاكتشفنا سريعاً ان حدود ما سيق من كلام حول التنمية في لبنان، لا يتعدى الإطار اللفظي او الإنشائي. وان معظم ما جرى تنفيذه من مشاريع حصل في ظل وعي تنموي منقوص، فكانت النتيجة هي إنجاز مشاريع يشوبها النقص التلاؤمي مع الاحتياجات الاساسية. علماً ان ما أنجز من «مشاريع إنمائية» جاء في الاساس من خارج السياسات التكاملية ان لجهة الغائية ام لجهة التكلفة. لأن غياب مثل هذه السياسات جعلتنا امام مشاريع منعزلة ومفككة في الاستخدام والأهداف والإنتاج عن بعضها البعض، والادهى من كل ذلك، هي التكلفة العالية المنفقة على إنجاز معظم هذه المشاريع. اما كيف يتعثر مسار التنمية في لبنان؟ فبإمكاننا تلمسه، وان بصورة موجزة جداً من خلال بعض نماذجها، على الصعد القطاعية التالية:
السفير - احمد امين بيضون (باحث وأستاذ جامعي)
اولاً: على صعيد القطاع العام
من المعلوم ان التشريعات القانونية هي اساس اي عمل تنموي. باعتبارها الإطار الضابط لغائية وتكاملية وشفافية جميع خطوط ومسارات مختلف العمليات التنموية، على قاعدة التشريع والمراقبة والمحاسبة. الا ان مثل هذه التشريعات غير موجودة وان وجد بعضها، فإنها غير معتمدة فعلياً في لبنان.
وعلى العموم، نحن إذا ما انطلقنا من الموازنات العامة للحكومات اللبنانية، فإننا نكون امام ارقام تفصيلية تؤشر بدلالاتها على امرين اثنين: الاول هو تركيز هذه الارقام حول إنفاق معظم واردات الخزينة على الاجور والرواتب وخدمة الدين العام. وما يبقى منها، فإنه يُوزع بطريقة المحاصصة على الوزارات والمجالس والصناديق مثل مجلس الإنماء والاعمار ومجلس الجنوب وصندوق المهجرين وهيئة الإغاثة. وذلك خارج إطار التوقف امام مستلزمات ضرورات الإنفاق، بمقتضى معايير وقواعد التنمية المستدامة. اما الامر الثاني، فهو مدى عمق التفاوت بين الواردات والإنفاق، وبالتالي تنامي العجوزات من عام الى عام. كل ذلك من غير ان يعني للمسؤولين ان ما يحدث هو على حساب التنمية المستدامة والنهوض الاقتصادي والاجتماعي، اي التخلي عن إيجاد اسس لمستلزمات التنمية من مؤسسات ومشاريع وبنى تحتية، ورسم لسياسات ضريبية هدفها دعم القطاعات الإنتاجية. فكانت النتيجة ان الزراعة مثلاً تواجه تحديات كبرى ومثلها الصناعة وهذا ما ترتب عليه هجرة معظم المزارعين لحقولهم ومزارعهم وإقفال غالبية المؤسسات الصناعية وبالتالي انتشارالبطالة والفقر.
اما بالنسبة الى المجالس البلدية، فإن عملها التنموي ما زال يدور في بعض البلديات ضمن حلقات ضيقة جداً، كبناء جدار او تعبيد طريق داخلي، ويكاد هذا الدور ان يكون معدوماً في البعض الآخر، الذي يشكل منها القسم الاكبر. ومرد هذا القصور يعود الى غياب وجود المجالس البلدية طوال أكثر من ثلاثين عاماً في معظم المدن والبلدات اللبنانية. لكن الاهم من ذلك، هو انعدام الوعي المجتمعي لأهمية العمل البلدي وسيطرة الذهنية الحزبية والمذهبية والعشائرية على هذه المجالس عبر رؤساء واعضاء (الكثير منهم لا يحسن القراءة والكتابة) فأين هم بالتالي من الفهم الحقيقي لوظيفة واهداف التنمية؟
ثانياً: على صعيد القطاع الخاص
من المعروف ان النظام الاقتصادي في لبنان، هو نظام رأسمالي حر. يخضع لحق حرية المؤسسات والافراد باتخاذ القرارات الاقتصادية مع ما يرونه مناسباً لتحقيق مصالحهم الخاصة، وتكوين ثرواتهم من خلال مراكمة رؤوس الاموال التي يحققها لهم فائض الإنتاج والارباح الصافية. لكن ثمة تساؤلات كثيرة تطرح نفسها ايضاً في هذا السياق. ابرزها يدور حول المصادر القطاعية لفائض الإنتاج، وإذا ما كان هذا الفائض يُعاد استخدامه في خلق استثمارات جديدة، تسهم في تطوير وتقدم الإنتاج عمودياً وافقياً.
إذا انطلقنا من هذه التساؤلات لتوصيف واقع الاقتصاد اللبناني، فإننا نستطيع القول، صحيح ان هذا الاقتصاد هو اقتصاد حر، أساسه المبادرة الفردية. لكنه على مستوى مصادر الإنتاج، فإنه اقتصاد ريعي، يقوم بمعظمه على السمسرة والمضاربات المالية والعقارية والفساد. وهذا ما حوله الى اقتصاد ضيق غير متجدد، اي انه مقفل على ذاته، وبالتالي لا علاقة له بمفاهيم التنمية الاقتصادية الا بالقدر القليل جداً.
ثالثاً: على صعيد قطاع المنظمات الاهلية والدولية
من المعلوم ان دور الجمعيات الاهلية والمنظمات الدولية في التنمية المستدامة يستند الى الابعاد الطوعية عبر تقديم الخدمات الى الفئات الاجتماعية الفقيرة والمهمشة، لتمكينها وتقويتها مادياً او روحياً او فكرياً. بغية انخراطها في مجتمعها، وتأدية دورها في إطار العمل الانتاجي الجماعي، للإسهام في دفع المجتمع نحو الافضل.
إلا ان ما حققته بعض الجمعيات في لبنان، ضمن هذه المفاهيم، لا يشكل سوى القليل جداً او النزر اليسير، نظراً للعدد الكبير للجمعيات الاهلية العاملة في لبنان، في مقابل ما انجزته على الصعد التنموية. وهذا يعود الى ان بعض الجمعيات تعمل على قاعدة الحزبية والمذهبية، وبعضها الآخر على اسس عائلية، لتتحول الجمعية (بمعنى مجازي) الى شركة عائلية لجمع الاموال والهبات وايداعها في الحسابات الخاصة.
اما بخصوص المنظمات الدولية، فإن عملها محدود جداً. لا يتجاوز إنشاء بركة لتجميع مياه الامطار الشتوية او شق طريق زراعية او إقامة معصرة لزيت الزيتون او خلاف ذلك من مشاريع بسيطة. بينما المطلوب هو تنفيذ مشاريع إنمائية على قاعدة استراتيجية تنموية مستدامة.