“دبس راشيا”… صناعة فريدة تتحدى من اجل البقاﺀ

“دبس راشيا”… صناعة فريدة تتحدى من اجل البقاﺀ
“دبس راشيا”… صناعة فريدة تتحدى من اجل البقاﺀ: تتميز بلدة راشيا بصناعة دبس العنب، الذي كان يشكل موسما أساسيا للاهالي، الا ان هذه الصناعة تشهد تراجعا كبيرا في ظل غياب الدعم الرسمي من جهة، وتراجع الاهتمام بزراعة الكرمة بشكل عام من جهة اخرى. وجاﺀ ا

تتميز بلدة راشيا بصناعة دبس العنب، الذي كان يشكل موسما أساسيا للاهالي، الا ان هذه الصناعة تشهد تراجعا كبيرا في ظل غياب الدعم الرسمي من جهة، وتراجع الاهتمام بزراعة الكرمة بشكل عام من جهة اخرى. وجاﺀ الارتفاع الكبير في درجات الحرارة هذا الصيف ليلحق الضرر بالموسم. وبعدما كانت معاصر العنب تنتشر في كل قرية تقريبا لم يبق في راشيا سوى ثلاثة منها تحاول الحفاظ على المهنة.
فتحت معاصر العنب ابوابها فــي راشــيــا الاســـبـــوع الــمــاضــي، مستقبلة محاصيل الاهالي فلا تزال زراعــة الكرمة تشكل موردا معيشيا للعديد من العائلات في راشيا الوادي، وكذلك انتاج دبس ا لعنب يشكل مو سما ا سا سيا لهم وجـــزﺀ ا اساسيا مــن مؤونة منازلهم، ومــع العلم بــان هذه الزراعة تراجعت كثيرا الا انها لا تزال تشكل جزﺀ ا من تراث تلك المنطقة وعادات الضيافة فيها، فقلما تــزور بيتا فيها ولا يكون صحن الاستقبال "العنب والتين" او تــحــلــيــة دبـــس بــعــد الــغــداﺀ.
وزارت "صـــدى الــبــلــد" معصرة العنب الحديثة للشيخ ابراهيم القضماني وكان لنا حديث شيّق مع ابنه الذي تعلم المهنة منه، الشيخ سهيل القضماني.
لا بد اولا من تغيير النظرة الى هذه الصناعة، فهي ليست مجرد تــراث محلي وانتاج بيتي، انها بالفعل احــدى اهــم الصناعات الغذائية التحويلية الفريدة، الامر الذي يتطلب دعما خاصا من قبل وزارة الزراعة، على اكثر من مستوى ولا سيما من خلال دعم اصحاب الــمــعــاصــر مـــن جــهــة وتــقــديــم الحوافز ودعم الاهالي للمحافظة على كرومهم وتشجيعهم على الاهــتــمــام بها مــن جهة اخــرى. ودعــم هذه الصناعة لتعود الى العديد مــن المناطق اللبنانية التي انقرضت فيها منذ سنوات.
ويواجه اصحاب المعاصر العديد مــن الــتــحــديــات الــتــي تــرفــع من تكاليف عملهم، ما يدفعهم غالبا الى القروض المصرفية بهدف تطوير صناعتهم ومعاملهم. واما هذا العام فتضرر موسم العنب في راشيا والبقاع الغربي بسبب موجات الحرّ المرتفعة، التي ادت الى احتراق العنب والقضاﺀ على ثلثي الموسم تقريبا، الامر الذي سيؤثر سلبا بطبيعة الحال على معاصر العنب. وكميات الانتاج المعهودة وسينعكس سلبا على الــمــزارعــيــن الــذيــن يشكل هذا المنتج مورد رزقهم الاساسي.
انه ايلول يعود وفي نسماته حنين لـ "دروب القمر"، كانت تعج باقدام السهارى في الكروم يحرسون عناقيده، في ذاك الزمن كانت للكروم قيمة اضافية، كانت البيت والملتقى ومكان العمل، ومــع كــل رجـــوع لايــلــول وطــيــوره المهاجرة يضج الــشــوق لليالي المعصرة وحــكــايــا السمر قرب مواقدها، وتعود للذكرى صورة كــرّام ينتظر بلهفة مــلﺀ سلاله في موسم القطاف. فتحتل زراعة الكرمة مكانة أساسية في الانتاج الـــزراعـــي فــي راشــيــا مــنــذ مئات السنين، تشهد على ذلــك آثار عشرات المعاصر الخمرية القديمة بين الكروم، حيث لم يكن الانتاج لغايات تجارية بل تأمينا لحاجات غذ ا ئية معيشية با لا ستهلا ك المباشر الذي يتحول إذا ما جُفف إلى "زبيب" وإذا ما عُصر العنب وتمت تنقيته من المواد الحمضية وطُبخ على نار قوية فإنه يصبح "دبسا للتحلية" وقد كان ولا يزال مادة طبيعية أساسية للحصول على السكريات الصحية على مدار السنة، والعنب المنتج من كروم البلدة على انواع منها: السلطي والفضي والسرعيني والحلواني والــســوري وأشــهــرهــا الشموطي المخصص لانتاج دبس العنب.
يعود عمر هــذه المهنة "او الصناعة" الــى اكثر مــن 1000 ســنــة، وكــــان الـــدبـــس الــبــديــل الطبيعي للسكر، اذ كان يستعمل للتحلية. وتعتبر صناعة فريدة عالميا، موجودة في تركيا واليونان ولـــكـــن كــعــمــل بــيــتــي ولــيــســت كصناعة غذائية. وهــذا ما يميز دبس العنب في راشيا التي طورت طريقة العمل فادخلت المعدات الحديثة بدلا عن المعدات اليدوية التي كانت تستعمل سابقا. وهذا التطور كــان وليد افــكــار ذاتية ومــبــادرات فــرديــة والــيــوم تضم البلدة 3 معاصر حديثة تنتج حوالي الطن دبــس يوميا، وهي "معصرة العنب الحديثة" للشيخ ابراهيم القضماني والتي يديرها ابنه الشيخ سهيل القضماني، مــعــصــرة الــيــعــســوب، ومــعــصــرة الشيخ احمد نصر الدين، ومعصرة اخــرى قيد الانــشــاﺀ. وتخلق كل منها اكثر مــن 15 فرصة عمل خلال الموسم الذي يبدأ عادة في 10 ايلول حتى منتصف تشرين الثاني.
فــي الــواقــع يتميز اصــحــاب هـــــذه الـــمـــعـــاصـــر بــلــمــســتــهــم الــخــاصــة الــتــي اضــافــوهــا الــى المهنة وبمحافظتهم عليها مع انتقالها الــى اولادهـــم، والعمل على تطويرها فحلت المعدات الكهربائية مــكــان الاقـــدام في سحل حبيبات الــعــنــب، وكانت الــخــزانــات ســابــقــا مــن الــحــجــر او الــنــحــاس، ولــكــن مــع تطويرها تحولت الى قدور من "الستنلس" واصبحت الصناعة انظف واجود، وكان طبخها يتم على الحطب ما يفقد الطباخ السيطرة على النار اما اليوم فالعمل اكثر دقة. لكن ومن جهة اخرى فان نوعية العنب تراجعت مما يدفع بالمزارعين الى استعمال الاسمدة، هذا بالاضافة الى كون الاهالي اهملت الكروم والزراعة، ما افقد العنب الجودة التي كان يتمتع بها.
تمر هذه الصناعة بالعديد من المراحل، فيتم اولا تحديد نسبة "" الحلا في العنب بواسطة ميزان متخصص "refractometre"، وتشكل درجـــة الـــ 29 اعلى هـــذه الـــدرجـــات الــيــوم والعنب الذي يتخطى الـ 25 درجة يكون ممتازا لانتاج الدبس. ويتم فصل انواع العنب ليجري عصرها ومن ثــم تجميع العصير لمدة عشر ســاعــات فــي خــزانــات خاصة من مـــادة "الــســتــنــلــس"، بــعــد خلط الــعــصــيــر مـــع الـــتـــراب الابــيــض "الصلصال" والذي من شأنه ان يعدل نسبة الحموضة "" ph في العنب، وبعدها يتم طبخ العصير فــي قـــدور كبيرة كــان القدامى يسمونها "خلقين" وعلى درجة حــرارة عالية ما بين 130 و140 الامر الذي يخفف نسبة الرطوبة منه ليعادل نسبتها الموجودة في العسل حوالي 20 في المئة.
وبعد الطبخ يتم تبريد الدبس الــذي تبلغ حــرارتــه حينها 100 درجة، في برادات خاصة. وعادة ما يكون الدبس سائلا ولكن الحاجة للاحتفاظ به كمؤونة ولمدة اطول يتم خفقه ليتحول الــى مــادة جامدة تكون جاهزة لتنضم الى منتوجات البيت اللبناني. وعادة كل 25 كيلو عنب تنتج 5 كيلو دبــس، ويبلغ ثمن كيلو الدبس في الاســواق حوالي 7000 ليرة لبنانية.
اثناﺀ مشاركة الشيخ سهيل القضماني في مؤتمر نحالي منطقة حوض المتوسط والذي عُقد العام الماضي في المغرب، قام بتقديم دبس العنب للمشاركين ليتذوقوه، فظنوه نوعا من انواع العسل ولكن بعدما عرفوا بانه دبس عنب، وصفه احد المشاركين الايطاليين بانه "اكسير الحياة".
ويتميز دبس العنب لما له من اهمية غذائية، فهو مادة محلية طبيعية، ويقول القضماني بان القدامى كانوا يسمونه "ابو عصبين"، وهو غني بمادة الـ "prolifinole" الذي يساعد في توسيع الشرايين وتنقية الدم وتنشيط الاعصاب والمحافظة على نضارة البشرة والشباب

البلد - نادر حجاز