تؤكد الحاجة أم محمد أن شجرة البطم معروفة في لبنان وفي الجنوب منذ أمد طويل: «كنا ننتظر حتى تستوي حبة البطم ...
تؤكد الحاجة أم محمد أن شجرة البطم معروفة في لبنان وفي الجنوب منذ أمد طويل: «كنا ننتظر حتى تستوي حبة البطم ويصير لونها أزرق، نجمعها ونأخذها في شوالات على الدابة إلى عربصاليم.. كان في معصرتين وكان قطف كل ثلاث شجرات يعمل تنكة زيت.. الزيت كنا نستعملو في القلي وفي الأكل. منطقة إقليم التفاح كانت مليانة شجر بطم وكان كل واحد بيقطف من حد بيتو من الشجر الموجود بالوعر.. كان الرزق كتير والله رازق الجميع».
وبالفعل فقد أثبتت التجارب الأولية التي أجريت على شجرة البطم أن أوراق الشجر يمكن استعمالها كعلف للمواشي، فيما يُستخرج الزيت من ثماره. والزيت طيب المذاق له نكهة خاصة، وهو ذو كثافة عالية تعادل ثلاثة أضعاف كثافة زيت الزيتون، ويُستخدم في الطعام مثل زيت الزيتون والذرة ودوار الشمس للقلي أو للاستخدامات الأخرى، كما يُصنع من الزيت الصابون المميز، كما تؤكد المهندسة الزراعية رنا مهدي.
تضيف مهدي «يُستفاد أيضاً من البطم بعد تطعيمه بالفستق الحلبي ما يؤدي إلى الحصول على نوعية أفضل من الزيت. وإضافة إلى فوائده الكثيرة التي لا تُعد ولا تُحصى يُصنف البطم كمنتج بيئي بامتياز، لا يحتاج إلى عناية خاصة فضلاً عن أن الشجرة نفسها هي من الأنواع الحرجية الشائعة والمعمرة التي تضفي إلى الطبيعية رونقاً خاصاً في فصل الخريف حين تتقلب ألوانها بين الأحمر والبني والأصفر المخضر».
الاستخدامات الطبية
في مجال الطب، للبطم مكانة مرموقة، وقد ذكر كل من ابن سينا وابن النفيس الدمشقي عن فوائده في علاج الأورام وأمراض الكبد ومرض البردة الذي يصيب جفن العين وفي علاج الجرب. وبالإضافة إلى استخدامه لعلاج أمراض المفاصل، كان يُستخدم كمعقم قوي وكعلاج للسعات الحشرات وطارد لها. وللأسف، تضيف مهدي، فقد تراجع إنتاج الزيت إلى الحد الذي اندثر فيه بفعل الاستيراد المكثف للزيوت ولعبت الدعاية دورها في الإضاءة على فوائد وأهمية الزيوت المستوردة في الوقت الذي لم يكن في لبنان أي اهتمام بكل ما هو محلي وطبيعي، ولا أية دراسة عن زيت البطم، «ويمكن ما كان في ولا دراسة لشي له علاقة بالزراعة في ذلك الوقت - أي قبل الحرب».
مشروع معصرة
لم يكن البطم معروفاً فقط في إقليم التفاح، بل كان مشهوراً في كل الجنوب اللبناني أيضاً، وفي مرجعيون خاصة، وتحديداً في القرى الواقعة بجوار وادي الحجير، من هنا يؤكد رئيس رئيس بلدية مركبا الدكتور جهاد حمود أن «البطم مشهور جداً وقديم جداً في الحجير، كانت أمي تعمل لنا قبعات خبز قمح مع حبات البطم الناضج على الصاج، طعمه طيّب ولكنه قاس قليلاً. الناس الآن ما عادت تعرف تعمل شيء، تشتري أغراضها من السوق، والقرية بالنسبة لها للعطلة أو للمناسبات».
الشأن البيئي ليس أمراً طارئاً على اهتمامات منطقة وادي الحجير ومحيطها، إذ حدّدت الخطة الاستراتيجية لاتحاد بلديات جبل عامل أهداًفاً خاصة بالمحمية وبتنميتها وتطويرها. أخذت الخطة على عاتقها مسؤولية إعادة الحياة إلى بلديات الاتحاد السبع عشرة، ولهذا تابعت باهتمام مشاريع تشجير جميع مداخل البلدات بالخروب والغار، وقد كان سبق للاتحاد أن أنشأ معصرة خروب لهذا الغرض في بلدة قبريخا. كما أولت الخطة عناية خاصة لمحمية وادي الحجير، حيث يتمّ التخطيط حالياً للعديد من المشاريع الحيوية في نطاق المحمية التي يمكن أن تعيد للمنطقة بريقها وتاريخها، كما يمكنها أن تضعها في الجغرافيا الحقيقية على خارطة الوطن. اقترحت الخطة الاستراتيجية إعداد مخطط توجيهي عام للمحمية يكون تحت نظر لجنة إدارة المحمية يعمل المخطط من ضمن مهامه - على تعداد الأشجار وتصنيفها، وذلك قبل أن تقرر اللجنة الطريقة المثلى التي يمكن أن تُثمّن فيها إيجاباً ما يمكن أن يُنمّي المنطقة، ويمكن أن يكون مشروع معصرة البطم واحداً من المشاريع الاستثمارية التنموية المستقبلية الهامة للمنطقة وأهلها، بحيث تؤدي المعصرة - فضلاً عن تأمين موارد مالية لمصلحة الاتحاد، دوراً تعليمياً وإرشادياً لطلاب المدارس حول حماية الحياة البرية والعناية بها بشكل عام».
المعصرة لا تحتاج إلى معدات خاصة كما معاصر الزيتون. كانت المعاصر فيما مضى تعمل على الماء، «كان هناك ناعورة صغيرة على مجرى نبع الطاسة، وكانت الناس تأتي من كل القرى لعصر الزيت الذي تعيده معها بحلل الفخار.. اما الآن فيتم وضع الزيت بـ«التنك» أو بالبلاستيك... وكل ذلك غير صحي وبيطعم (له طعم)، المطحنة توقفت والبطم ما عاد أحد يعرف به..»، تختم الحاجة أم محمد.
قد يكون من الشجاعة الكبيرة أن تقوم البلديات بإعادة زراعة بعض الأنواع التي تراجعت أهميتها عند الناس عند مداخل البلدات، وذلك في محاولة منها لإعادة إحياء تراث بأكمله، ولاسترجاع زمن كان الناس فيه صامدون في أرضهم يزرعونها ويأملون بالخير المتجدّد الآتي مع إشراقه كل صباح، لكن يبقى أن يستشعر الناس أنفسهم أن يكونوا أولاد الأرض الحقيقيين.
السفير