الأشجار «البلدية» الطبية والعطرية... تعود

الأشجار «البلدية» الطبية والعطرية... تعود
من يعُد بالذاكرة إلى منازل الأجداد العتيقة في القرى اللبنانية، فلا بد من أن يستعيد رائحة ...

من يعُد بالذاكرة إلى منازل الأجداد العتيقة في القرى اللبنانية، فلا بد من أن يستعيد رائحة أشجار «الزيزفون» المزهرة وهي تتصدر الباحات والمداخل. من يعُد بذاكرته يمكن أن يتذكر أيضا كيف قطف ذات يوم قصفة من شجيرات «اللويزة» وتعطرت يداه بها... قبل أن تحلّ مكانها أشجار غريبة. اما تلك التي لم تزرع مكانها أشجار بديلة مع الثقافة البديلة والدخيلة، فقد غابت مع المساحات الخضراء عندما سيطرت «ثقافة الاسمنت». كانت أزهار الزيزفون الصفراء الصغيرة واحدة من أزهار وأعشاب كثيرة تعد كنوع من «الزهورات» لعلاج نزلات البرد في الشتاء، وكانت أزهار «اللويزة» شرابا يتناوله أجدادنا قبل أن يعرفوا البن والشاي.
كثيرين استعادوا اليوم زراعة «اللويزة» كأن ثمة عودة إلى المنابع الأولى. وما تخلينا عنه طوعا بفعل «التطور» والاستسهال، أدركنا قسرا أنه حاجة تعيد لنا بعضا من هوية ضائعة، وتعيد بعض سمات البيت القديم في مواجهة موجات الحداثة ومشروبات «السوبر ماركت» بما تحمل من مواد ومنكهات صناعية ثبت ضررها على الصحة.
قد تكون المسألة بهذا المعنى أبعد من «الزيزفون» و«اللويزة»، لأنها متصلة بتراث وتجربة اكتسبها الأجداد جيلا بعد جيل بالتجربة الحسية، فتصدرت المنازل المعقودة والمزدانة بالقرميد وبقناطر مشغولة بالعرق والتعب.
«يبدو أن ثمة صحوة قائمة الآن. فنحن نتلقى طلبا كبيرا على أشجار (اللويزة)»، تقول المهندسة الزراعية جنان أبو سعيد، وهي صاحبة مشتل زراعي، وتضيف: «قبل نحو ثلاث سنوات لم يكن هناك طلب كبير على الاشجار اللبنانية المنشأ، الا اننا بدأنا نشهد اقبالا عليها ولا سيما على أشجار (الزنزلخت) التي بدأنا منذ سنتين نحضر منها أغراسا بأعداد كبيرة. حتى أن بعض المواطنين طلبوا انواعا من الاشجار غير متوافرة في السوق ومنها (القطلب)، ومن هنا نسعى مع المصادر التي تزودنا بالأغراس إعادة الاعتبار لهذه الأنواع».
واشارت أبو سعيد الى أن «هناك اقبالا كبيرا على أغراس (اللويزة) ونؤمنها للمواطنين فهي أصبحت متوافرة في المشاتل نتيجة هذا الاقبال»، لكنها لفتت إلى أن «الطلب قليل على (الزيزفون) لاسباب لا نعرفها، ولذلك فأغراسها غير متوفرة بكثرة ربما لصعوبة انباتها وقلة الطلب عليها في آن».


اللويزة تطرد الأحزان

تعرف «اللويزة» علميا باسم Aloysia ومنها اصناف عديدة، أما اسمها فهو معرب عن الاسم العلمي Aloysia المشتق من اسم زوجة ملك اسبانيا كارلوس الرابع (1788 1808) ماريا لويزا Maria Luisa، وكان الاسم المتداول سابقا «المليسا» ومعروفة في بعض المصنفات العلمية ايضا بهذا الاسم Melissa، إلا ان احدا لا يعلم كيف أصبحت تعرف باسم «اللويزة» كونها من الشجيرات التي تعيش في البيئة المتوسطية وهي ترقى إلى زمن بعيد جدا، وفي بعض المصنفات العلمية الاخرى تعرف باسم «عشبة نحل البحر المتوسط».
شهدت زراعة «اللويزة» تراجعا بعد أن كانت زراعتها من ضرورات الحياة بفضل أزهارها العطرية، وكانت تزرع في كافة المناطق اللبنانية ساحلا وجبلا، إلا ان البعض واظب على الاعتناء بها. ويقول الشيخ خليل ضو ان «زراعتها سهلة لكن في نهاية الصيف وتحديدا في شهر تشرين الثاني أو مع بداية الربيع وتحديدا في نيسان». ويضيف «فقط نكسر منها غصنا صغيرا ونضعه في الأرض»، وأشار الى أن «أجدادنا عرفوا أهمية (اللويزة) وكانت ولا تزال تستعمل كنوع من (الزهورات) لمعالجة الرشح ونزلات البرد، وهي تزرع في حديقة كما ترون، للاستعمال عند الطلب»، ولفت إلى أنها «من النباتات والأشجار الشعبية المطلوبة كثيرا، وكانت تستخدم سابقا في مجال الطب الشعبي، والآن عاد الطلب عليها وغالبا ما أقدم أغصانا وفروعا لدى تقليمها الى كثيرين بدأوا يهتمون بزراعتها».
الموطن الأصلي لشجيرة «اللويزة» هو منطقة البحر الأبيض والمتوسط ويكثر وجودها في لبنان وسـوريا، «قال عنها أحد الخبراء انها تطرد كل الأحزان وكانت من الأشجار المفضلة في القرون الوسطى لتحضير (اكســير الشــباب) وفي القرن الثامن عشر كان يعتقد انها تجدد الشباب»، على ما يشير طارق أبو الحسن المتخصص في مجال التدواي بالأعشاب.


الخصائص والفوائد

ويضيف أبو الحسن: «أزهار وأوراق (اللويزة) غنية بزيت طيار ومواد دابغة ومواد مرة وفلافونيدات وتربينات ثلاثية وفينولات وحموض العفص»، وقد ربط الناس منذ اقدم العصور بينها وبين العسل كونها تحمل خواص العسل والغذاء الملكي».
واشار أبو الحسن إلى أنه في «دراستنا شجيرة اللويزة لفتنا ما أكده البرفسور نورمان (استاذ الصـيدلة في الكـلية الملكية بجامعة لندن ومؤلف كتاب العقاقير الطبية) ان أوراق الــلويزة أدخلت ضمن الوصفات الجيدة لعلاج الصداع أو الشقيقة وينصح باستخدام ملعقة إلى ملعقتين من اوراق النبات الجاف تضاف إلى كوب ماء سبق غليه ويترك حتى يبرد ثم يشرب»، ولفت إلى أن «فوائدها الطبية أكثر من أن تحصى وهي تخضع لدراسات كثيرة للوقوف على أهميتها».
وقال: «لا يمكن الحديث عن (اللويزة) باقتضاب كونها موضع اهتمام العلماء، لكن لا بد من الاشارة الى ما كتبه جون افلين عام 1706 من أنها علاج للدماغ كونها تقوي الذاكرة وتطرد الاكتئاب، وما زالت لهذه العشبة الغنية بعطرها مكانتها على نطاق واسع لخصائصها المهدئة. فقد بينت الأبحاث الألمانية أن الزيت الطيار يهدئ الجهاز العصبي المركزي ويعتبر مضاداً قوياً للتشـنج. كما وجد أنها تكبت عمل الغدة الدرقية. وهي دواء رسمي، فقد اعتبرته اللجنة الألمانية وهي اللجنة المسؤولة عن الدواء وهي مماثلة لهيئة الغذاء والدواء الأميركية FDA دواء مهدئاً وملطفاً للمعدة».
ما يتوصل اليه العلم الآن حيال «اللويزة» التي تصنف ما بين الشجر والعشب كون ارتفاعها لا يتعدى المتر ونصف المتر، خبره الأقدمون بالتجربة، وعن طرق استنباتها تقول الاختصاصية في المحاصيل الزراعية الدكتورة ديانا مروش أبو سعيد ان «من الضروري لتسريع نموها وضع نوع من الهرمون هو الـ Rooting Hormon عند الأغصان المأخوذة من الشجرة»، وتشير إلى أن «اللويزة معروفة في فرنسا باسم Vervine، وهي تشرب كما الشاي وهناك اقبال عليها من جديد حتى أنها تسوق كونها مفيدة للصحة».


الزيزفون عطرية وطبية

أما أشجار الزيزفون فلا يزال بعضها موجودا منذ زمن بعيـد، لكن أغراسـها غير متوفرة على نطاق واسع، ما لفت انتباهنا أن أحدا من المهندسين الزراعين يعرف كيفية استنباتهـا كأغــراس جـاهزة للزرع، «الامر استفزني لاجراء دراسات عنها»، على ما قالت الدكتورة أبو سعيد، وأضافت «من الصعب الإلمام بكافة هذه الاصناف من الاشجار والنباتــات لكثرتــها، لــكن ذلك لا يبرر عدم متابعة تفاصيل مهمة عن اشجار موطنها لبنان ومنطقة البحر الابيض المتوسط».
وخلافا لشــجيرة «اللويزة» فإن شجرة الزيزفون كبــيرة يصل ارتفاعــها إلى نحــو عشرة أمتار، وهي شجرة معمرة كثيرة الأغصان، وتشبـه من حيـث أوراقها شجرة الزيتون، ولونها فضي أيضا، ولأزهارها رائحة عطرية وفوائد طيبة.
وأزهارها تبدو مثل عناقيد من الأزهار الصفراء، ويوجد نوعان من الزيزفون. النوع الأول صغير الأوراق ويسمى باللاتينية Tilia cordata، والنوع الثاني كبير الأوراق يسمى Tilia plalyphyllys، وبحسب الموسوعات العلمية فإن «كليهما ينمو بشكل طبيعي في جبال لبنان وسوريا وتركيا».
«تتميز شجرة الزيزفون بنوعية خشبها الذي يستخــدم في صــنع الأدوات الدقيقة كأصابع البيانو والأثاث الثمين والستائر ومن خشبها الداخلي يستخرج نوع خاص من الطلاء المستخــدم في تلمــيع قــطع الأثــاث»، كـــما يقــول رئيــس «جمــعية غــدي» فادي غانم، ويضيف: «كجمعـية نملك مشتلا زراعيا مدرسيا لفتــنا هذا الأمــر قبل أهميتها البيئية والصـحية، فقــلنا لماذا لا نبادر الى تعميم زراعتها للاستفادة منها كمورد اقتصادي ايضا»، وأشار إلى «اننا لا نزال في طور إعداد الدراسات اللازمة لنمكن من استنباتها في مشتلنا بدلا من شراء الأغراس من السوق المحلية».
وقال غانم: «في تجربتنا على صعيد المشتل أولينا اهتماما منذ إنشائه قبل اثنتي عشرة سنة بالصنوبر والأرز والسنديان، لأننا أردنا تعويض ما احترق من هذه الأشجار، أما الآن وبعد توسيع المشتل أدخلنا أصنافا كثيرة من الأغراس كالشربين والملول ومختلف أنواع الورود، ونحن بصدد استنبات الزنزلخت وأنواع أخرى من الاشجار التي تنتمتي الى بيئتنا اللبنانية ومن بينها الزيزفون».


كمضاد للتشنج والمغص

أما رئيس رئيس «جمعية اليد الخضراء» زاهر رضوان، فقال انه في اطار مشروع الجمعية الهادف الى تشجيع الزراعات البديلة ولا سيما منها الطبية والعطرية، قمنا بتجربة حول زراعة الزيزفون وننتظر الوصول إلى مرحلة الانتاج لتشجيع المزارعين وتثقيفهم على بيع الأزهار كنوع من الزهورات، فضلا عن أنها تستخدم في صناعة المواد الطبية والتجميلية».
وأشار رضوان إلى أنه «يمكن ان نستخرج من الزيزفون نوعا من الزيت يشبه إلى حد ما زيت الزيتون له استخدامات في مجال الاستطباب وصناعة العطور ومواد التجميل».
ويشير أبو الحسن إلى أن «أزهار الزيزفون تستعمل كمضاد للتشنج ولمغص المعدة والأمعاء وعسر الهضم كما أنها تساعد على التخلص من عفونة المعدة وهي علاج للزكام المحتقن والنزلات الشعبية والسعال والربو ومنشطة لإفراز الصفراء والكبد وهي كذلك ملين ومقشع ومعرق كما أنها مهدئ يساعد على النوم والتخلص من القلق والصداع وتسكن الآلام العصبية وتفيد لآلام المفاصل والروماتيزم، وتستخدم مضادا للإسهال كما تنفع للأرق والاضطرابات الهضمية والعصبية وآلام الرأس وتصلب الشرايين».
وقد استعمل الطبيب والفيلسوف العربي ابن سينا في القرن الحادي عشر أوراق الزيزفون كلصقة لإزالة الورم وتسكين الألم، كما استخدمها كشراب مغلي لمعالجة الدوالي».



السفير