على الحافة المشد المريح!: قيل إن في مقالنا السابق «رفاهية غير مريحة»، مبالغة. وان الرفاهية التي يعيشها الإنسان الحديث حقيقية، مقارنة بحياة الأجداد الصعبة والمضنية. وان هناك مكتسبات للتقدم التقني لا يمكن إنكارها. اما الانعكاسات السلبية، فيمكن تصحيحها مع الوقت.
قيل إن في مقالنا السابق «رفاهية غير مريحة»، مبالغة. وان الرفاهية التي يعيشها الإنسان الحديث حقيقية، مقارنة بحياة الأجداد الصعبة والمضنية. وان هناك مكتسبات للتقدم التقني لا يمكن إنكارها. اما الانعكاسات السلبية، فيمكن تصحيحها مع الوقت.
ذكرتني هذه الأفكار بفلسفة «المشد المريح» الذي تعتمده بعض النساء. فاذا كان هدف المشد ووظيفته ان يضغط على الجسم كي لا تظهر الدهون ولإخفاء ترهل الجسم، فمن الطبيعي ان تكون وظيفة المشد بأن يضغط أكثر وأكثر اذا أرادت النساء البدينات ان تنحف أكثر وأكثر. وبالتالي فإن المشد المريح، هو مشد كاذب، لا يقوم بالدور الذي وضع من اجله. في حين ان الحل الحقيقي يكمن في إجراء تغيير جذري في نظام الحياة، التغيير في النظام الغذائي وطرق الأكل والنوم وفي الحركة والعمل... الخ وربما تطلب الأمر ممارسة الرياضة وأموراً أخرى كثيرة تغيّر في خلايا الجسم التكوينية... ولا تقف عند الظاهر من الموضوع.
فإذا حسبت المرأة البدينة ان الزيادة في تناول الأكل الشهي «رفاهية»، فعلى مشدها ان لا يكون مريحاً. فكل «زيادة» في الأكل، تحتاج إلى زيادة في الشد. وكذلك الأمر بالنسبة الى أي مستهلك، فإذا حسب ان الرفاهية هي في قدرته على المزيد من الاستهلاك، فعليه ان لا يشد حزامه، لا بل عليه ان يعمل أكثر لتكبير حجم قدرته الشرائية والاستهلاكية. ولكن أن يعمل الإنسان أكثر، يعني رفاهية اقل! هذا احد ابرز أوجه التناقض الذي يعيشه الإنسان الحديث. ليس العيش بتناقض هو الحديث. لطالما عاش النوع الإنساني بتناقضات وراكم عقداً فوق عقد. إلا أن هذه التناقضات وتلك العقد، لم تكن خطرة على النوع. كانت تشكل خطرا على الفرد وعلى الجماعة الصغيرة، بين الجماعات... ولكنها لم تكن مهددة لوجود النوع الإنساني، كما هي الحال مع العصر الاستهلاكي الحديث.
تتبنى فلسفة «المشد المريح»، الكثير من السياسات الاقتصادية المسيطرة عالميا، من دون ان تعلن ذلك. يظهر هذا التبني في فلسفة الديون والقروض في اقتصاد السوق تحت عنوان شعبي «التقسيط المريح». فنظام اقتصاد السوق القائم على زيادة الإنتاجية وبالتالي زيادة الاستهلاك، ابتدع العديد من الطرق لتشجيع الاستهلاك عبر نظام مصرفي مرن. بإمكان الإنسان الحديث ان يقترض على معاشه لشراء الكثير من الحاجيات، ويتم تقسيط الدفع، بشكل «مريح»... ولكن قد يمضي الانسان حياته وهو يعمل لكي يفي ديونه، التي تزداد باطراد كلما زادت حاجاته. .. في وقت تزداد الحاجات بسرعة قياسية من سرعة التقدم التقني وقوة الاعلانات المرتبطة بالشركات المنتجة، فيدخل الانسان المستهلك في دوامة لا نهاية لها حتى بنهايته هو نفسه، اذ يرث من بعده الديون التي يفترض تسديدها يوما ما بأكلاف خيالية. وعن اية ديموقراطية يتحدث العالم الحديث اليوم عندما يورث الأجيال الآتية ديونه المتراكمة؟!
ثم هل احتسب الانسان الحديث المتدين (الذين يعيش لتسديد الديون) أي كلفة يدفع من قلقه الدائم وأعصابه وقلة نومه... حتى مماته؟
لم تكن فلسفة الديون محببة في تراثنا الشعبي. يروى ان رجلا مر بقريب له فوجده يعيش ببحبوحة. فسأله عن السبب. قال القريب، بسبب البقرة الحلوب التي اقتناها مؤخراً، والتي تدر له الحليب واللبن واللبنة بأكثر من حاجته، وانه بدأ يبيع الجيران ويفكر باقتناء بقرة ثانية من اجل تأمين الحليب للقرية.
أعجبت الفكرة الرجل وذهب لشراء بقرة حلوب. الا انه وجد ان سعرها غال جدا وهو يحتاج الى عمل سنتين لكي يستطيع اقتناءها. فكر كثيرا ولم يجد حلا لقضيته الا بسرقة بقرة. وسرعان ما كشف أمره وأدخل السجن. بعد فترة مر به قريبه لزيارته في السجن، وبعدما عرف قصته، لامه كثيرا وأنبه ووصفه بالأهبل وقال له: لماذا سرقت البقرة أيها الأهبل؟ لماذا لم تشترها بالدين؟
كان أجدادنا يعتبرون الدين سرقة اذا. فعندهم كان «كل شيء بحسابه والعدس بترابه». وكانت قيمة الأشياء حقيقية أكثر والاقتصاد نفسه كان طبيعيا وحقيقيا أكثر.
تستدين الدول ايضا ضمن نفس المبدأ تقريبا. وإذ تورط الأفراد والمؤسسات والدول بنظام اقتصادي يقوم على الديون، ألم يحن الوقت بعد للسؤال متى تستحق هذه الديون والى متى سيظل بالإمكان تأجيلها؟ وأية كلفة على العالم بأسره دفعها عندما تستحق فعلا؟ فماذا بعد ديون بلد اوروبي مثل اليونان التي يحاول الاتحاد الأوروبي إنقاذها منذ مدة؟ وماذا عن الديون الامبراطورية للولايات المتحدة الاميركية التي تشغل العالم هذه الايام، والتي يمكن ان تهدد الاقتصاد العالمي؟ ألا يفترض ان تدرس حجم السرقات العالمية التي حصلت مع تراكم كل تلك الديون وكيفية تسديدها؟
الم يحن الوقت بعد للمقارنة بين اقتصاد الديون والاستهلاك الحديث واقتصاد الكفاية القديم؟ وهل من يجرؤ بعد اليوم للسخرية من اقتصاد الكفاية القديم والتبجح بادعاءات «التقدم»؟
ليس هناك من مشد ولا من دين مريح. على الجسم نفسه ان يكون مريحا اذا اكتفى باستهلاك حاجته، وكذلك الامر بالنسبة للدول.
ان العيش باقتصاد الديون كالعيش بالمشد المريح. فهل علينا ان ننتظر ازمات وكوارث عالمية غير مسبوقة بعد، لكي يكشف أمر هذه الكذبة العالمية المتمادية؟
حبيب معلوف - جريدة السفير