أكثر من 600 مليون ليرة سنوياً للقضاء على الزراعات الممنوعة المتجددة: يتمنى أبو محمد، الذي يسكن في أعالي بلدة اليمونة، الموسومة كغيرها من بلدات البقاع بزراعة المخدرات، أن يتعرف على الدولة من خلال مشروع إنمائي، أو اقتصادي، أو صحي، أو تربوي... من المشاريع الحيوية
يتمنى أبو محمد، الذي يسكن في أعالي بلدة اليمونة، الموسومة كغيرها من بلدات البقاع بزراعة المخدرات، أن يتعرف على الدولة من خلال مشروع إنمائي، أو اقتصادي، أو صحي، أو تربوي... من المشاريع الحيوية التي تفتقدها المنطقة المنسية من أجندة الدولة، إلا أن الرجل لا يحفظ إلا صورة العسكر، ومشهد أرتال القوى الأمنية، التي تزور المنطقة مرة في السنة، في مهمة محددة، عنوانها تلف الزراعات الممنوعة. إلا أن أبا أحمد، كغيره من عشرات المزارعين في البقاع، لا يعرفون أن ضعف كلفة الحملة الأمنية السنوية تلك، لو صرف على الإنماء، كان ليقضي تدريجياً على الزراعات الممنوعة بشكل غير مباشر، ويضخ الحياة في المنطقة.
لا أحد في المنطقة مع زراعة الممنوعات والمخدرات، ولكن في المقابل لا أحد يتبرع بالوقوف ضد تلك الزراعة، لأن حجته مفتقدة بفعل الغياب المزمن للدولة عن المنطقة، حتى خيل للبعض أن الدولة بذلك الغياب، قد شرعتها رسمياً على مرّ السنوات الماضية، بفعل واقع المنطقة التي باتت العنوان الأساسي للإهمال والحرمان. وتلازمت تلك الصفة مع أي حديث عن قرى بعلبك - الهرمل، التي لم تر يوماً التنمية، حتى إن الزراعة أهملت فيها، ووضعت العراقيل المتتالية في وجهها، فتركت المنطقة لقدرها ولأبنائها، الذين وجدوا الأرض، والماء، ونبتة الحشيشة، ملاذهم وخيارهم الأوحد. ولم تكن تلك الزراعة طارئة على المنطقة، بل تعود زراعتها إلى حقبة حكم العثمانيين، حيث لم تكن محصورة بطائفة أو مذهب، بل كانت تشكل اجماعا طائفيا ومناطقيا، فانتشرت تلك الزراعة من بريتال إلى حزين، وجرود حورتعلا، إلى اليمونة، وعرسال، والقاع، ودير الأحمر، والصفرا، وبوداي، وسهل العليق.
سنوات وسنوات مضت وزراعة المخدرات تتوسع في المنطقة، على مرأى من سياسييها والقوى الأمنية، وكل الأجهزة الرسمية. ولم يكلف أحد من كل تلك القوى نفسه التدخل لوقف زراعتها، حتى تحولت إلى ركيزة اقتصادية لمئات العائلات، وأوصلت منهم نواباً، ووزراء، وسياسيين، حزبيين. وباتت تلك الزراعة من اليوميات البقاعية، وجزءا لا يتجزأ من نسيج المنطقة وعائلاتها.
البديل المطلوب
واللافت أن منطقة بعلبك - الهرمل، حازت على تمثيل رسمي رفيع في الدولة اللبنانية، بالإضافة إلى نواب ووزراء ادعوا أنهم ولدوا من رحم المعاناة، التي تعاظمت بفضل قطار التهميش، الذي لم تتوقف عجلته يوما، فيما بقيت أسيرة عدم الإنصاف محرومة من المشاريع الإنمائية، بل الأسوأ أن زراعة المخدرات ترعرعت في ظل قرار رسمي عنوانه «غضّ الطرف»، لتبرر الدولة إهمالها وتخليها عن المنطقة، بحجة المخدرات والطفار، الذين يزيد عددهم عن 35 ألف شخص مطلوب، بعضهم لا يعرف الأسباب.
يتحدث الأهالي عن تخلي الدولة عن أبسط مسؤولياتها في المنطقة، فحتى اليوم لم تنجز ملف الفرز والضم، ولم تقم بعملية واسعة لاستصلاح الأراضي، والريّ، وإنشاء سدّ العاصي. ولم تبعد المشروع الأخضر، على سبيل المثال، عن المحسوبيات وهدر أمواله، وبالتالي فإن ابن المنطقة وجد في زراعة المخدرات حلاً سريعاً لأزماته الاقتصادية المتراكمة. ودفع غياب الزراعات البديلة والتنمية، العشرات من المزارعين على المضي قدما في تلك الزراعة، كما يقول المزارع ح. ض.، الذي يبرر إقدامه على زراعة حقله بالحشيشة بسبب وحيد «زراعة سهلة وتعطي مردوداً مالياً مقبولاً. ولا بديل عندنا».
وبحسب أحد المزارعين، فإن زراعة «نبتة الحشيشة تتميز بانخفاض كلفتها من ناحية اليد العاملة، وعدم الحاجة إلى كميات كبيرة من المياه لريّها، وذلك ما يجعل زراعتها أمراً ميسوراً، في حين تتطلب زراعة الحبوب والبطاطا عناية وإمكانات، وكلفة أكبر. وتحتاج إلى أسواق تصريف، فضلا عن تعرضها للمضاربات الخارجية». وتبدأ عملية زراعة المخدرات من خلال زرع البذور (القنبز)، إذ تزرع في بداية شهر شباط، وينتظر المزارع حتى شهر أيلول، حيث يجري قطعها وتجفيفها ثم تنظيفها، وكبسها في معامل خاصة ابتدعها مصنعو المخدرات. ويصبّ أحمد، جام غضبه على الدولة، بكافة أجهزتها الأمنية والسياسية والوزارية، وحتى الفعاليات النيابية في منطقة بعلبك - الهرمل، الذين يوافقون على التلف من دون إيجاد البديل، «فالكل ضدنا، يتلفون بقوة العسكر ولا يقدمون لنا حلولاً أو بديلا سوى الصورة الأمنية».
في المقابل، فإن الكثير من هيئات المجتمع المدني في منطقة بعلبك - الهرمل ترفض تلك الزراعة، وتعتبرها خارجة وبعيدة عن عادات وتقاليد المدينة، إن لناحية الدين أو المجتمع، ولذلك «لا يجوز اتهام المنطقة بأكملها بامتهان العمل بالمخدرات، التي لا يمكن إلقاء تبعاتها على أبناء بعلبك والهرمل»، كما يقول حسين درويش، الذي يعتبر أن «الحل يبدأ بإطلاق مشاريع إنمائية وتنموية ذات جدوى اقتصادية، وبعيدا عن الحسابات السياسية وحتى المذهبية».
سياسات بديلة
ومنذ العام 1992، وعقب بداية القرار الرسمي اللبناني بالتلف، طرح موضوع الزراعات البديلة. وشكلت هيئات دولية ولبنانية رسمية، لتعميم تلك الزراعات، وتقديم المساعدات للمزارعين إلا أن كل تلك المشاريع بقيت حبراً على ورق، وكلاما في الإعلام، ولم تصل زراعة دوار الشمس، والحبوب، وزراعات أخرى وُعد بها الأهالي كبديل عن الزراعات الممنوعة. ويرفض وزير الزراعة الدكتور حسين الحاج كلمة «زراعات بديلة»، فالمطلوب كما يقول: «سياسات بديلة لمواجهة سياسات خاطئة، عانت منها منطقة بعلبك - الهرمل، والمطلوب تعميم وإطلاق الخيارات البديلة عن الزراعات الممنوعة، لأن الاهالي في تلك المنطقة ليسوا مدمنين على تلك الزراعة. وهم يعرفون زراعة القمح، والشعير، والحبوب، ولكن يريدون من الدولة أن تقف إلى جانبهم، لا أن تتركهم، ولا تتذكرهم إلا في عملية تلف الزراعات الممنوعة، التي فرضت عليهم نتيجة تخلي الدولة عن أقل واجباتها تجاه المنطقة، فلم يجدوا سوى تلك الزراعة التي يرفضونها هم أساسا». ويؤكد الحاج حسن أن «الوزارة اليوم تعمل على دعم زراعات تجد أرضية وقبولاً في منطقة بعلبك - الهرمل، وهي زراعات مدعومة، كالقمح، والشعير، والحبوب، كما أننا نعمل على إعادة اطلاق برنامج دعم الصادرات الزراعية. ونعمل في الوقت نفسه مع الأهالي للتوقف عن تلك الزراعة. ولكن علينا أن نقف في البداية إلى جانبهم، وأن نعمل على توفير المناخات الإيجابية والخيارات البديلة حتى نصل إلى توقف تام لتلك الزراعة».
في المقابل، فإن الأجهزة الأمنية المكلفة مكافحة عملية زراعة المخدرات (المحصورة في تلك المنطقة)، تتفق على «ضرورة تنفيذ خطوات إنمائية من قبل الدولة اللبنانية، لإنصاف المنطقة ورعايتها بمساعدة الهيئات الدولية المانحة». ومن المتوقع أن تتخطى تكاليف عملية التلف للسنة الحالية، كما يقول رئيس مكتب مكافحة المخدرات المركزي العقيد عادل مشموسي عتبة الـ 600 مليون ليرة لبنانية، يضاف إليها عملية إلهاء العناصر الأمنيين والعسكريين عن تنفيذ مهامهم الأساسية لمدة تزيد عن شهرين، عدا عن استهلاك الآليات كون العملية تتم في مناطق وعرة، وبالتالي تؤدي إلى إلحاق أضرار بهياكلها، واستهلاك المحروقات، والاستعانة بجرافات وجرارات وعمال. فيما تؤكد بعض المصادر أن «ذلك المبلغ لو ضوعف مرة واحدة، وصرف على مشاريع إنمائية سيتكفل سنة بعد سنة، بتراجع كبير في تلك الزراعة وطيّ ملفها».
ويتحدث العقيد مشموسي عن «قرار أمني، لا رجوع ولا تهاون فيه، يقضي بالقضاء حتى آخر متر من تلك الزراعة، لأن الإحصائيات الأمنية تؤكد أن تلك الزراعة وإنتاجها بات يستهلك في لبنان. ولم يعد يقتصر على التصدير، فالمخاطر الناتجة عنها باتت تعشش بين الشباب اللبناني، متسببة بإصابته بالعديد من الأمراض التي يتناقلها المدمنون». ويوازن مشموشي ما بين وقف تلك الزراعة وتطور المنطقة إنمائياً واقتصادياً، لأنها تعمل على تهريب الرساميل، وتمنع خلق استثمارات خاصة، ولكن في المقابل هناك تطلع إلى الجمعيات والمؤسسات الدولية المانحة لإعارة بعلبك - الهرمل الاهتمام والعناية اللازمة، وإدراجها ضمن المناطق التي تحتاج لمساعدات مالية وعينية، من أجل تنمية تلك المناطق التي تزرع فيها المخدرات، أي بمعنى آخر يجب مساعدة ومساندة السلطات اللبنانية في منع تلك الزراعة كي لا يعد لبنان دولة منتجة للمخدرات، وفق مشموشي. إلا أن ما يرفضه مشموسي يتمثل بـ«عملية تبرير وتقديم الذرائع لاستمرار تلك الزراعة، لأن المشاهدات والدلائل تؤكد على أن من يزرع نبتة الحشيشة هم من أصحاب الأملاك الكبيرة، وليس صغار المزارعين الذين يزرعون اليوم زراعات أخرى». ويتحدث مشموشي عن «منطقة لا تتعاون مع القوى الأمنية»، وعن «صعوبة في الملاحقة القضائية والعدلية، لأن أغلب عمليات الزرع تتم في المشاعات، وأراض غير مفروزة، وعدم تحديد الملكية يصعّب عملية تحديد المزارعين».