الخزانات الترابية» عصب زراعة التفاح في كفر سلوان وجوار الجوز وترشيش: في مطلع سبعينيات القرن وصل إنتاج بلدة كفرسلوان من التفاح إلى ما يقارب المئة ألف صندوق، من دون احتساب الإنتاج في معظم قرى وبلدات المتن الأعلى، يوم تحولت زراعة التفاح ركيزة أساسية في اقتصاد الر
في مطلع سبعينيات القرن وصل إنتاج بلدة كفرسلوان من التفاح إلى ما يقارب المئة ألف صندوق، من دون احتساب الإنتاج في معظم قرى وبلدات المتن الأعلى، يوم تحولت زراعة التفاح ركيزة أساسية في اقتصاد الريف، وشكلت بديلاً عن زراعة التوت وتربية دود القز، وأخذت مساراً تصاعدياً منذ الخمسينيات. لكن بدلاً من أن تتحول وفرة الإنتاج إلى نعمة تؤمن للشريحة الأكبر من المواطنين نوعاً من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، تحولت نقمة وأزمة اضطرت الحكومة وقتذاك إلى مواجهتها عبر شراء الإنتاج من المزارعين، وحددت سعر الكيلو الواحد بعشرة قروش، الأمر الذي كانت له نتائج كارثية، فاضطر المواطنون إلى ترك بساتينهم - وهي كانت في معظمها أراضي بور تم استصلاحها بتكاليف عالية، لتبدأ حركة نزوح واسعة إلى العاصمة وضواحيها.
إلا أن أبناء كفرسلوان، بالإضافة إلى جوار الحوز، وترشيش المتاخمتين لها، لم يكن أمامهم أي خيار آخر، فالبلدات الثلاث رابضة عند سفوح جبل الكنيسة، وتعلو ما بين 1400 و1600 متر عن سطح البحر، فاستمر أبناؤها بزراعة التفاح، في ما عدا نسبة قليلة وجدت ضالتها في الهجرة أو العمل في مجالات أخرى، فيما 90 في المئة من بساتين التفاح والأشجار المثمرة في القرى والبلدات الاخرى تركها أصحابها ليشهد المتن الأعلى حركة نزوح واسعة نحو المدينة. ولم يكن بالإمكان أن تزدهر زراعة التفاح وتستمر في أعالي المتن لولا «الخزانات الترابية»، فهي عصب تلك الزراعة، فضلاً عن زراعة الخضر الصيفية، وهي تشكل نوعاً من الزراعة الرديفة أو المكملة لقطاع زراعة التفاح. ويكفي أن نذكر أن عدد الخزانات الترابية في كفرسلوان وجوار الحوز يتعدى اليوم مئتي خزان. إلا أن ثمة مشكلة بدأت مؤخراً تؤرق المزارعين مع تدني مستوى المتساقطات، ولا سيما الثلوج، ذلك أن ثمة منحدرات وجروفاً عميقة في أعالي الجبال كانت تتجمع فيها الثلوج من عام لآخر، وتظل تمد الينابيع في فصل الصيف بالمياه، فيما لا يوجد فيها الآن إلا كميات قليلة لن تصمد لأكثر من أيام قليلة.
في الماضي، ومع وفرة المياه «كنا نربي سمك الترويت في الخزانات. وكانت الثلوج تغذي الينابيع وتمد الخزانات بالمياه والاوكسيجين»، يقول المزارع سعيد حاطوم، لافتاً إلى أنه «منذ سنوات ما عاد أحد يربي السمك، لأنه إذا لم يبق في الخزان ربع أو ثلث كمية المياه ينفق السمك، وذلك ما حصل مرارا».
في مجال متصل، يبدي المهتمون بالشأن البيئي مخاوف كثيرة حيال هذه الظاهرة، فالأمر «لا يقتصر على تراجع كمية المتساقطات، وندرة المياه، وشحّ الينابيع بسرعة فحسب، وإنما يطاول القطاع الزراعي من حيث الانتاج وعدم ملاءمة المناخ لأصناف كانت موجودة منذ نحو عشر سنوات»، كما يقول رئيس «جمعية غدي» البيئية فادي غانم، لافتاً إلى أن «الجمعية تجري دراسات في ذلك المجال، وفي المحصلة الأولى، وجدنا أن ارتفاع درجات الحرارة ما عاد يلائم أنواع التفاح الأكثر انتشاراً في لبنان (غولدن وستاركن)، وعلى المزارعين اختيار أنواع بديلة من التفاح قادر على مواجهة التغيرات المناخية»، مشيراً إلى أن «الأمر يتطلب إجراء تقييم دقيق لواقع الحال من خلال ذوي الخبرة والاختصاص في مجال الزراعات البديلة، وخطة من قبل وزارة الزراعة لتأمين أغراس التفاح من أنواع لا تتأثر كثيراً بالتقلبات المناخية وتقديمها للمزارعين مجاناً أو بأسعار تشجيعية».
واعتبر غانم أن «الأمر الملح الآن يتمثل في مساعدة المزارعين على تأمين صيانة جيدة للخزانات الترابية للحد من تسرب المياه منها، كالاستعاضة عن التربة الدلغانية العازلة بنسبة 70 أو 80 في المئة بالنايلون المقوى». ودعا إلى «الإسراع في مواكبة ما هو قائم اذا كنا نريد للقطاع الزراعي أن يبقى ويزدهر ويتطور»، لافتاً إلى أن «تلك مسألة ملحة جدا كونها مرتبطة بالأمن الغذائي الوطني والحد من استيراد حاجات لبنان من الخضر والفاكهة».
وفي الماضي، كانت توجد برك قرب الينابيع «نسميها (محاقن) وهي كانت عبارة عن خزانات أو بركة ترابية صغيرة تتسع لعشرين برميل مياه لري بضع شجرات»، يقول المزارع كامل المغربي، لافتاً إلى أن «كفرسلوان والقرى المحيطة، عرفت زراعة التفاح منذ 60 سنة». ويعزو الفضل في ذلك إلى «الرئيس الراحل كميل شمعون، أول من شجع على زراعة شجرة التفاح». ويستدرك المغربي: «لقد استعضنا في ستينيات القرن الماضي عن (المحاقن) الصغيرة بالخزانات الترابية». وقال: «ما شجعنا على ذلل العقيد فؤاد لحود، وهو أول من أقدم على تطويرها وتوسيعها، عبر خزانين منفصلين، وعندما تأكد من أنهما قادران على استيعاب المياه، عمد إلى ربطهما ببعضهما البعض، فالمياه تشكل قوة ضغط كبيرة كفيلة بجرف الخزان والتسبب بكوارث لجهة تدفق كميات كبيرة من المياه دفعة واحدة، إن لم يكن الخزان مشاداً بطريقة هندسية دقيقة». ويضيف: «في أحيان كثيرة لا تنجح التجربة بسبب أن التربة لا تكون ملائمة، فنعمد إلى إحضار تربة دلغانية من مكان آخر أو تربة «كدانية» صلبة لونها رمادي، ونضعها في أسفل الخزان وعلى جوانبه الدائرية. ونقوم بحدلها بواسطة جرار زراعي ثقيل الوزن لنمنع تسرب المياه».
وأشار المغربي إلى أنه «في السبعينيات بنى وليم مصابني خزاناً اسمنتياً ضخماً بشكل هندسي وفني في كفرسلوان. وجهزه بطريقة تمكن الجرار من الوصول إليه، وغلفه بمادة مطاطية (كاوتشكوك)، واستطاع من خلاله ريّ 18 الف متر مربع من الأراضي الزراعية، وهو خزان الاسمنت الوحيد في البلدة». ولفت إلى أن «كلفة مثل ذلك الخزان كبيرة جداً، فيما عائدات القطاع الزراعي لا تمكن من تغطية التكاليف»، وأن «انتاج التفاح تراجع من نحو 90 ألف صندوق إلى 30 الفاً».
أما عن كلفة الخزانات الترابية، فأشار المزارع سامي عادل المغربي إلى وجود نوعين من الخزانات الترابية «الأول يتم تخزين المياه فيه من الأمطار والثلوج، والثاني من مياه الأنهر الشتوية والينابيع»، لافتاً إلى أن «هناك وفرة في المياه حالياً لكن دائما هناك مخاوف من شحّ المياه ونفادها، والأمر مرتبط دائما بكمية الثلوج».
وعن كلفة استحداث خزان ترابي، قال: «حفر خزان وتجهيزه يتطلب نحو 300 ساعة عمل لجرار (كلفة الساعة 50 دولارا)، وأقل خزان لا تقل كلفته عن 20 ألف دولار أميركي، مع احتمال عدم الصلاحية وضرورة تأمين (الدلغان)»، مضيفاً: «بدايةً، يتم حفر الخزان في تشرين الأول ومن ثم نبدأ بمراقبته مرات عديدة مع بداية الشتاء، للتأكد من عدم تسرب المياه المتجمعة من الأمطار، وإذا كانت ثمة مشكلة نقوم بمعالجتها، ومن ثم نفرغه من المياه ونقوم برصّ التربة، ودلكها جيدا، وذلك الأمر يتطلب نحو سنة».
ولفت المغربي إلى أن «الأمر لا ينتهي عند ذلك الحد، فالخزانات بحاجة إلى صيانة كل سنتين أو ثلاث سنوات، ولا تقل الكلفة عن ألف دولار، وذلك ما يتسبب بارتفاع كلفة الإنتاج». وقال: «كل الوزارات المتعاقبة لم تولِ معاناتنا اليومية اهتمامها. إن ما يهمنا بالدرجة الأولى هو تأمين تسويق الإنتاج، ومنع استيراد التفاح الذي يعتبر من الزراعات القليلة التي تؤمن فائضاً يفوق بكثير حجم الاستهلاك المحلي، أو معاملتنا بالمثل بالنسبة للدول التي تصدر إنتاجها الى لبنان»، وإذ أكد على «ضرورة إنشاء تعاونية زراعية»، طالب «وزارة الزراعة، وسائر مؤسسات الدولة المساعدة في شقّ طرق زراعية، وبناء شبكة أقنية اسمنتية لمياه الريّ لمنع هدر المياه».
في قرى أعالي المتن الأعلى ثمة هواجس لدى المزارعين حيال القطاع، وما يمثل من أهمية اقتصادية، عنوانها المياه وتبعات التغير المناخي، ويبقى السؤال: هل ستتمكن الدولة من وضع آليات وتحديد خطوات واضحة لمواجهة تلك التحديات؟.