
المقدمة
تعرضّ لبنان خلال العام 2024 لاسيما في أواخره إلى عدوان عسكري إسرائيلي واسع طال معظم أراضيه أدّى إلى أضرار جسيمة على مختلف الأصعدة. ورغم تركيز اهتمام التقارير الدولية والاعلام على الأضرار الاقتصادية والاجتماعية والبشرية للحرب، فإن الأضرار التي تعرضت لها البيئة في مختلف جوانبها لم تحظ بالاهتمام الكافي رغم علاقتها الوثيقة بصحة الانسان وتحقيق التنمية المستدامة. تهدف هذه المقالة الى قراءة الأضرار البيئية التي خلفها العدوان بشكل عام استناداً الى تقارير ومصادر موثوقة وبالاستفادة من المقابلة التي أجريت مع مديرية الزراعة في مؤسسة جهاد البناء حول الموضوع، علماً أنه حتى الآن لم تصدر دراسات علمية تفصيلية نتيجة عوامل عدة لاسيما التوجيهات الأمريكية الموجودة بهذا الخصوص.
أولًا: البُعد البيئي للبنان
يعدّ لبنان بلداً غنياً بالتنوع البيئي، فهو يتميز بموقع جغرافي وتنوع تضاريس تسمح بوجود تنوع بيولوجي في مساحته الصغيرة. وبخصوص منطقة جنوب لبنان، فهي تتميز بموقع جغرافي حيوي وتعد أراضيها من أخصب الأراضي الزراعية في لبنان، كما تتمتع بتنوع المناخ بين المناخ الساحلي والمناخ الداخلي. يعتمد سكان الجنوب بدرجة كبيرة على الزراعة، خصوصًا زراعة الزيتون، والحمضيات، والخضروات، والموز، والتبغ. كما تحتوي منطقة الجنوب شبكات مياه جوفية ومجاري سطحية تغذي الأراضي الزراعية، مثل نهر الليطاني ونهر الوزاني. ومن الناحية البيئية، يضم الجنوب العديد من المحميات الطبيعية والأحراج، مثل محمية وادي الحجير التي تُعد موطنًا هامًا للتنوع الحيوي، وتحتوي على أنواع نادرة من النباتات والطيور. ورغم بعض التحديات البيئية مثل التصحر الجزئي والزحف العمراني العشوائي، حافظت المنطقة نسبيًا على استقرارها البيئي قبل الحرب الأخيرة، بدعم من مبادرات محلية ودولية للحفاظ على الغطاء النباتي والمياه كحملات التشجير الدورية التي أقامتها مؤسسة جهاد البناء في المنطقة.
ثانيًا: مظاهر الأضرار البيئية المستجدة
أثرت الحرب الأخيرة على بيئة لبنان بمختلف أبعادها، ويمكن تلخيص الأضرار التي تعرضت له بالتالي:
1) تدهور جودة الهواء:
نتج عن القصف انبعاث غازات سامة وجسيمات دقيقة في الهواء، مما أثر على جودة الهواء خاصة أثناء الحرب وتسبب في مشاكل صحية للسكان، لاسيما في المناطق المستهدفة.
2) تدمير البنية التحتية البيئية
في الحرب تضررت منشآت حيوية مثل محطات المياه والصرف الصحي، وهذا ما قد يسمح بتسرب المياه العادمة وتلوث مصادر المياه، وزيادة مخاطر الأمراض المنقولة بالمياه.
3) حرائق الغابات وتدمير الغطاء النباتي
أدى القصف إلى اندلاع حرائق واسعة في مختلف المناطق لاسيما في الجنوب، خاصة في الأحراج والغابات، مما تسبب في فقدان مساحات خضراء كبيرة وتدمير مواطن الحياة البرية. لا يؤثر هذا التدمير على التنوع البيولوجي فقط ، بل يساهم أيضًا في زيادة مخاطر التعرية والتصحر كالمشهد الذي نراه الآن في أحراج منطقة شقيف.
4) تلوث التربة والمياه:
خلّفت الأسلحة المستخدمة، بما في ذلك القذائف التي تحتوي على فوسفور أبيض ومعادن ثقيلة، ملوثات كيميائية تسربت إلى التربة والمياه الجوفية، ما قدد يهدد سلامة بعض المحاصيل الزراعية ويؤثر على بعض مصادر مياه الشرب والري.
5) فقدان التنوع البيولوجي:
تسببت النيران، والانفجارات والضوضاء، وتدمير المواطن الطبيعية، في نفوق عدد كبير من الكائنات الحية، وهروب أخرى، مما أثر على التوازن البيئي في المناطق الجبلية والريفية.
ثالثًا: التداعيات طويلة المدى
في ظل غياب خطط حكومية فعالة، فإنه يوجد صعوبة في إعادة تأهيل البيئة بشكل سريع مما سينعكس على غذاء الفرد وصحته لاسيما:
1) تهديد الأمن الغذائي:
تضررت الأراضي الزراعية والمحاصيل نتيجة القصف والتلوث، كما أدى نزوح السكان إلى تقليل الأيدي العاملة في القطاع الزراعي مما أدى إلى انخفاض الإنتاج الزراعي والذي سيؤثر بشكل مباشر على تحقيق الأمن الغذائي في المناطق المتضررة للأعوام القادمة أيضاً نتيجة تدهور التربة والحاجة للمعالجة قبل الإنتاج.
2) تأثير تلوث المياه على الصحة العامة.
بالرغم من عدم وجود دراسات حول تأثر المياه الجوفية في هذه الحرب، فإن نتائج حرب 2006 أكدت وجود أثار سلبية كبيرة على المياه الجوفية نتيجة تلوثها بالمعادن الثقيلة وتسرب الصرف الصحي اليها بما في ذلك تلوث بعض المحاصيل الزراعية من خلال الري وصولاً لمخاطر متفاوتة على الصحة.
رابعاً: تفصيل وتوصيات/ التوصيات العملية
بالاعتماد على المعطيات العلمية والمواكبة العملية لمديرية الزراعة في مؤسسة جهاد البناء لآثار الحرب على البيئة، نقدم التوصيات التالية:
1) خسارة الثروات الحرشية: تقدر خسارة الثروة الحرشية في هذه الحرب بشكل أولي بما لا يقل عن 40% من الثروة الحرشية في لبنان، نتيجة احتراق الشجر وقطعها، وهذا ما ينعكس على آثار صحية وبيئية كبيرة بما في ذلك خسارة حوالي 90% من الثروة النحلية في منطقة الجنوب وفقدان نسبة لا يستهان بها من التنوع البيولوجي في المناطق المستهدفة. لذا فإنه من المهم المسارعة الى الحد من هذا التدهور البيئي عبر إعادة اطلاق حملات التشجير من قبل مختلف الجهات الحكومية وغير الحكومية.
2) تلوث التربة بالمعادن الثقيلة: يعتبر استخدام المعادن الثقيلة مثل الرصاص والزئبق في المواد المتفجرة من أخطر أنواع التلوث نتيجة أنه يترسب في التربة مع مكوناتها فيصعب التخلص منها ويشكل هذا التلوث تهديداً مباشراً لصحة الانسان والبيئة. ومن أبرز الأساليب الحديثة لمعالجة هذه المشكلة، هو استخدام تقنية الفيتوريميدايشن (Phytoremediation)، وهي تقنية تعتمد على استخدام النباتات لتنظيف التربة الملوثة من خلال عمليات امتصاص، تراكم، تثبيت، أو تحويل الملوثات. ومن النباتات التي تستخدم في هذه التقنية زراعة الصباريات والبقلة والهندباء ودوار الشمس والحور. وهنا لابد من الإشارة الى أن هذه النباتات لا تعمل كلها على جميع المعادن بنفس الوقت، لذا يجب فحص التربة ثم اختيار النبات بحسب نوع التلوث.
ومن التوصيات الهامة لاستصلاح الأراضي الملوثة بالمعادن الثقيلة:
- تجنب محاصيل هذه الزراعات لهذا العام في المناطق المستهدفة لتجنب المخاطر الموجودة فيها،
- التخلص من النبات بعد امتصاص المعادن بطريقة آمنة (مثل الحرق أو الدفن في مواقع مخصصة)، لمنع إعادة التلوث
- الانتظار للعام القادم لإعادة زراعة الأراضي بعد زيادة المواد العضوية لها ، أو إعادة تتريب الأرض بشكل كامل.
3) المتفجرات الفوسفورية:
يستخدم الفوسفور في الحروب كمادة حارقة كما يستخدم لإضاءة الأهداف ولإنتاج جدار دخاني في المناطق المستهدفة.
a. تلوث التربة:
• لا يوجد تأثيرات خطيرة لاحقة لهذه المادة على التربة نظراً لأن الفوسفور هو أحد مكونات السماد المستخدم لتوفير تغذية تدعم النمو الصحي للنباتات وتعزز إنتاجية المحاصيل. أما المشكلة فتكمن في ارتفاع تركيز الفوسفور مما يؤدي الى احتراق الأرض. وهذا ما يتطلب رفع نسبة ري الأرض لتجاوز المشكلة في السنوات القادمة.
• لتحقيق تعافي للأشجار المحروقة بهذه المادة، يجب تشحيل أماكن الاحتراق وتطبيق ري مكثف، واضافة المواد العضوية للتربة.
• بخصوص منتج الزيتون، فلا يوجد تأثير لهذه المادة على ما تم انتاجه من الزيت وذلك يعود للتخلص من مادة الفوسفور عن سطح حبات الزيتون عبر تغسيلها في المعاصر قبل عصرها بالإضافة الى امتصاص الفائض منها عبر الشجرة دون وصولها الى الزيت المنتج.
b. تلوث الهواء: ينتج عن استخدام الفوسفور في الحروب تلوث هوائي خطير على الصحة عند انتشار هذه المادة في الهواء، الا أن هذا الخطر يزول مع زوال هذه المادة من الهواء مع تساقط الشتاء المتكرر.
c. تلوث المياه: يؤدي وصول مادة الفوسفور الى مصادر مياه الشفا الى تلوثها، مما يتطلب فحص المياه في مختبرات علمية خاصة.
4) ظهور مشكلة الردم:
يعتبر الردم الناتج عن المباني المستهدفة ذو نتائج سلبية على البيئة لاسيما فيما يخص الألواح الشمسية وبطاريات الليثيوم والتي تزايد استخدامها في السنوات الأخيرة. فهذه الألواح الشمسية والبطاريات تحتوي على مواد كيميائية ضارة تحتاج إعادة تدويرها الى تكاليف عالية. من الناحية العملية، فبالرغم من اصدار الإرشادات بخصوص المسار البيئي للتخلص من الردم من قبل وزارة البيئة، فإنه يوجد تأخر في رفع هذه الأنقاض بالمقارنة مع ما حصل في العام 2006 وذلك يعود لأسباب عديدة منها طبيعة الردم المستخرج من الأبنية، والآلية المستخدمة لفرز الركام، ووجهة استخداماتها الأخيرة.
الخاتمة والتوصيات:
بالرغم من خطورة اهمال البعد البيئي على التنمية المستدامة للمجتمع، تعتبر البيئة "الضحية المنسية" في الحروب، لذا يوصى بإدماج هذا البعد في خطط الإغاثة وإعادة الإعمار وتفعيل دور المجتمع المدني والمنظمات البيئية لمساندة الدولة للقيام بذلك عبر:
- إجراء تقييم شامل للأضرار البيئية.
- تنفيذ برامج لإعادة تأهيل الغطاء النباتي ومصادر المياه.
- تعزيز الوعي البيئي بين السكان والجهات الفاعلة.
- تطوير سياسات وطنية مستدامة لتعزيز مناعة البيئة أمام الأزمات المستقبلية.