تلعب الزراعة دورا هام في اقتصاد الدول وخاصة النامية منها لمواكبة متطلبات المجتمع، وإذا كانت تحتل مكانة مهمة في اقتصاد الدول المتقدمة فإنها تعتبر حجر الأساس بالنسبة لأغلب اقتصاديات الدول النامية فهي تمد الإنسان بغذائه وغالبا ما تكون المصدر الرئيسي لتوفير فرص العمل.
ويعتبر إنتاج النباتات الطبية والعطرية من أهم أنشطة القطاع الزراعي، حيث تعد من الحاصلات غير التقليدية والتي تحتل مكانة كبيرة في التجارة الخارجية. انتشرت زراعة النباتات الطبية والعطرية منذ قديم الزمن وهي مجموعة نباتات واسعة الانتشار يتراوح عددها ما بين 200-250 ألف نوع تقع تحت أكثر من 200 عائلة نباتية وتتمثل في كونها إما أشجار مثل القرفة والكافور أو شجيرات مثل الياسمين والحناء والخروع أو أعشاب معمرة مثل النعناع والبردقوش والعتر أو أعشاب حولية مثل الحبوب العطرية كالكزبرة، والكراوية، واليانسون، والشمر، والبابونج، والريحان.
وترجع أهمية النباتات الطبية والعطرية إلى قيمتها الاقتصادية الكبيرة واستخداماتها المتكررة فهي تحقق عائدا مجزيا بالإضافة إلى قيمة الوحدة منها كما أن لها مجالا واسعا في التجارة الخارجية نظرا لزيادة الطلب العالمي عليها. ترتبط أهمية النباتات الطبية ارتباطا وثيقا بقضايا الصحة العامة شاملة الصناعات الدوائية ومستحضرات التجميل، والطب الشعبي والتداوي بالأعشاب، وأيضا تعد مصدرا للصبغات الطبيعية، بالإضافة إلى ارتباطها بالزراعة في مجال إنتاج التوابل ومكسبات الطعم والرائحة وغذاء الإنسان والحيوان، والمبيدات الطبيعية حيث أن لبعضها تأثيرا مقاوما لبعض الحشرات الضارة والكائنات الحية الدقيقة. كما أن بعضها يحتوي في أجزائه على زيوت طيارة تستخدم في تحضير العطور والمستحضرات التجميلية، كما يوجد نباتات تحتوي على زيوت عطرية تستخدم في علاج بعض الأمراض.
علاوة على أن القيمة الاقتصادية للنباتات الطبية والعطرية لا تتوقف على كونها محصولا للتصدير يدعم الدخل القومي، بل هي مشروع اقتصادي متكامل يفتح المجال لإقامة العديد من الصناعات التي ترتبط بهذه المنتجات الزراعية، مما يساهم في توفير فرص عمل كبيرة للشباب. كما ان الطلب على النباتات الطبية والعطرية يزداد محليا وعالميا خاصة مع ازدياد التوجه العالمي الحديث للتحول إلى كل ما هو طبيعي، مما أدى إلى ازدياد الطلب والإقبال على هذه النباتات. ونظرا لقلة التكاليف التي يحتاجها إنتاج النباتات الطبية والعطرية وكذلك ملاءمتها للكثير من أنواع الأراضي وكذلك تحملها لبعض الظروف التي قد لا تتحملها نباتات اخرى مثل ملوحة التربة أو ملوحة مياه الري أصبحت محط اهتمام العديد.
النباتات الطبية والعطرية في لبنان:
تعد النباتات الطبية والعطرية مورد عيش هام لعديد من الاسر، ويعتبر استخدام النباتات الطبّية والعطريّة في لبنان تقليد يعود لمدة طويلة. تعتبر النباتات الطبية والعطرية مصدرا للمواد الخام المستخدمة في المأكولات والعلاجات التقليدية والحرف اليدوية كصناعة الصابون التقليدي، الزيوت الطيّارة، والماء المقطر، كما أنها توفر مصادر دخل إضافية للمجتمعات الريفيّة من خلال الزراعة، التصنيع التقليدي والبيع. وقد لجأ المزارعون اللبنانيون، أو من أراد أن يدخل إلى عالم الزراعة، إلى الزراعات العطرية كالزعتر، الخزامى، البابونج والقصعين، لأسباب عدّة أبرزها سهولة تصريف الإنتاج وعدم حاجتها إلى مجهود بدني مقارنة ببقية الزراعات، بالإضافة إلى دخولها في الصناعات الدوائية والغذائية والعطورات، وكذلك عدّها مصدراً مهماً في غذاء النحل وصناعة العسل ذي الجودة العالية.
ان الحاجة الى وجود خطة بديلة في الزراعة بعد أزمة ارتفاع الأسعار وانبثاق الحاجة الى تأمين محصول ومردود مادي دفع عدد كبير من المزارعين في لبنان الى اعتماد نظام الزراعات المتنوعة، أي النظام الذي يعتمد على زراعة عدة أصناف من المزروعات بدل الصنف الواحد وذلك للحد من خسارة المحصول كاملا في حال حدوث أي تغير مناخي بالإضافة الى تأمين مدخول على مدار السنة. لم يعد الاعتماد على محصول واحد مجديا للمزارعين مع ارتفاع أسعار المدخلات والتعرض للأمراض والآفات. وقد ازدادت الأوضاع سوءا بعد امتناع الخليج العربي عن استقبال الصادرات اللبنانية من الفاكهة والخضار فباتت المحاصيل تتكدس عند المزارعين وتتلف وتنخفض أسعار مبيعها مع الوقت وتضعف قدرتها على منافسة البضاعة المستوردة التي تغزو السوق اللبناني. من رحم هذه الأزمة الاقتصادية انبثقت الحاجة الى الزراعات العطرية في لبنان، وبحسب منظمة الفاو تبلغ مساحة الأرض المستثمرة في النباتات الطبية والعطرية حوالي 500 هكتار في العام 2021. فهناك إقبال غير مسبوق عليها والكل يجمع على ضرورة تطويرها وتأمين كافة مستلزمات صمودها مع المحافظة على الزراعات التقليدية، لتأمين السلة الغذائية اللبنانية لتجنيب المواطن ويلات فقدان المنتجات الزراعية أو ارتفاع أسعارها تحت أي ظرف كان.
وعلى الرغم من الجدوى الاقتصادية للزراعات العطرية والطبية وانتشارها بشكل واسع في المناطق اللبنانية حيث يوجد أكثر من 300 نوع يستخدم بدرجات متفاوتة، إلا أن القيّمين على الزراعة اللبنانية، يؤكدون أن بعض الأنواع مهددة بسبب ممارسات الحصاد غير المستدامة، وبسبب تجزئة موائلها وفقدانها، بالإضافة إلى مخاطر الحرائق وتغيّر المناخ. وبالرغم من طاقاتها الاستثمارية الكبيرة الا أن القليل منها تحول الى سلاسل الإنتاج الاستثماري.
إن بعض الزراعات العطرية كالزعتر تسوّق لنفسها ولا تجد عوائق أمام تصريف الإنتاج فزراعة الزعتر باتت محط اهتمام فئة كبيرة من أبناء قرى جنوب لبنان، الذين تحولوا إلى زراعة هذه النبتة المنتجة بعدما دخلت بقوة في صناعة تقطير الأعشاب. كما أن تقطير هذه النبتة كما الكثير من الورود والأعشاب البرية يشكل مصدر رزق لنسبة مقبولة في وتيرة تصاعدية من المزارعين في جنوب لبنان.
وبحسب دراسة أجريت ضمن برنامج الأمم المتحدة للتنمية وذلك في العام 2020 عن سلسلة القيمة المتعلقة بزراعة وتسويق الزعتر، تبين أن 60% من المسيطرين على السوق هم من كبار التجار والمصدرين وأن معظم المنتجين تتراوح مساحة أراضيهم بين الدونم الواحد والخمسة دونمات وتبين أن 30% من الأطراف المساهمين في السلسلة هم منتجون ومسوقون أي انهم يشاركون في السلسة من الألف الى الياء. ان الزعتر المنتج محليا يكفي لتغطية 50% من حاجة السوق أما الكمية المتبقية فيتم استيرادها من الخارج، وعليه فان هذا القطاع يحتاج الى الدعم والى تزويد المزارعين بالتدريب المطلوب من أجل زيادة الإنتاجية وتخطي العقبات وتقليل تكاليف الإنتاج. تكمن نقاط القوة في هذا القطاع بإمكانية تجفيف هذه النباتات واستعمالها ما يعني أن تكاليف التخزين قد تكون معدومة، الأمر الذي يصب في مصلحة المنتج ويضمن له ربحية جيدة.
وبالرغم من سهولة زراعة النباتات الطبية والعطرية وإمكانية استثمارها كمشروع اقتصادي مربح إلا أن بعض المزارعين يعانون من مشكلة في تصريف بعض الأصناف منها كالزعفران. إذ يروي أحد المزارعين عن تجربته في هذه الزراعة أنه زرع الزعفران في حدود 500 دونم وهي مساحة تُعدّ كبيرة، وتم إنتاج كمية بحدود 5 كيلوغرامات في السنة الأولى، وفي السنة ثانية تضاعف الإنتاج، إلا أن الإنتاج الأول لم يُصرَّف حتّى الآن. في لبنان، لا يوجد سوق حقيقي للزعفران، فاللبناني ليس مستهلكاً للزعفران، ولكي نخلق وعياً لدى اللبنانيين لاستهلاك الزعفران، نحتاج إلى وقت طويل جداً من جيل إلى جيلين، وأقرب سوق لنا لاستهلاك الزعفران هو الخليج العربي الذي يعتمد على الزعفران الإيراني. فبالرغم من أن المزارع اللبناني الذي لديه كيلو زعفران يمكن أن يكون ثمنه ابتداءً من 1،000 دولار وصولاً إلى 20،000 ألف دولار حسب جودته ونوعيته، الا أنه يخزّنه في بيته ولا يستطيع تصريفه، فاذا تصريف الإنتاج هو المشكلة التي تواجه زراعة الزعفران في لبنان واستمراريتها. ومن هنا تبرز الدعوة إلى ضرورة مساعدة المزارع على تأمين أسواق في الخارج لتصريف الإنتاج، والعمل على تأمين أسواق محلية للتصريف أو توجيه المزارعين لإنتاج ما يطلبه المستهلك اللبناني من أجل دعم الإنتاج المحلي وتأمين بيعه بسعر جيد، وعليه المساهمة في تحريك العجلة الاقتصادية.
أخيرًا، تعتبر النباتات الطبية والعطرية بديل مناسب للزراعات التي تحتاج الى رعاية والى الري الوفير وخاصة في ظل ارتفاع أسعار المدخلات الزراعية وصعوبة تحصيل مياه الري المطلوبة. بالإضافة الى زراعة الزعتر والذي يبدو أنه من السهل انتاجه، تصريفه وتخزينه، يمكن أيضا زراعة أنواع أخرى كالسماق، السمسم، اكليل الجبل وغيرها من الأصناف التي تتناسب مع استهلاك السوق اللبناني ان كان من ناحية الغذاء أو الصناعات التقليدية. ان الزعتر وغيره من الأصناف المحلية يعتبر نبتة اقتصادية تناسب الزراعة في المناطق الريفية، كما انها تتميز بعمرها الطويل وسهولة تخزينها بالإضافة الى إمكانية تصنيعها وتقطيرها بطرق سهلة وبسيطة الأمر الذي يعطيها قيمة اقتصادية مضافة ويجعلها مصدر لتأمين مدخول إضافي ان كان على صعيد الإنتاج المنزلي أو اعتمادها كاستثمار اقتصادي صناعي.