الحرف في لبنان ... إلى أين ؟: إستقطب موضوع الحرف في لبنان إهتمام أكثر من جهة وهيئة ومؤسسة نظراً للدور الذي يلعبه العمل الحرفي في صون التراث اليدوي وتطويره ، ونظراً لما يوفره من إطار فاعل لتماسك الأسرة على الصعيدين الإجتماعي والإقتصادي ، ولما توليه المنظمات
إستقطب موضوع الحرف في لبنان إهتمام أكثر من جهة وهيئة ومؤسسة نظراً للدور الذي يلعبه العمل الحرفي في صون التراث اليدوي وتطويره ، ونظراً لما يوفره من إطار فاعل لتماسك الأسرة على الصعيدين الإجتماعي والإقتصادي ، ولما توليه المنظمات الدولية المعنية بالتراث والتنوع الثقافي من إهتمام متقدّم متنام بهذا القطاع وأبعاد تطويره وتنميته .
تطور مفهوم الحرفة عبر الزمن ، فاتسع حيناً ليشمل كل عمل يقوم به الإنسان ، أو ضاق لينحصر بالعمل الإنتاجي اليدوي حيناً آخر . فمصطلح الحرفة إرتبط عموماً بالكدّ والكسب المادي ، غير أنّ أدبيات العصر الإسلامي مالت إلى إستخدامها مرادفة لمصطلح " الصنعة " و " الصناعة " بكثرة ، وبمعناها الشامل ، بحيث ضمّت الإنتاج المادي اليدوي ، والإبداع الفكري في آنٍ معاً .
ومع مرور الزمن ، إزداد الفارق بين ما هو إنتاج يدوي ، وما هو إنتاج آلي ، فبقي الأول معتمداً على مهارة الحرفي المتوارثة ، وقدرته على الإبتكار ، ولمسة الفن والجمال التي يطبع بها إنتاجه ، وأصبح للثاني معاييره التكنولوجية ، وجدواه الإقتصادية وإجراءاته التسويقية , فأطلق على الإنتاج الحرفي اليدوي إسم artisanat من جذر art بمعنى الفن ، وعلى الإنتاج الآلي " المنتوجات الصناعية " " industrial product " ،وعندنا إشتهرت تسميته الحرف اليدوية " بالتراثية " تارة ، و " بالتقليدية " تارة أخرى ، وأخيراً " بالشعبية " .
أمّا الحرف القائمة اليوم فهي وريثة صنائع الأمس ، ومع تغير وظيفتها في المجتمع ، خصوصاً بعد التطور التقني الكبير الذي تناول مختلف جوانب الحياة في المجتمعات كافة ، أصبح للحرفة تعريف عصري ودقيق وهو " من يقوم بعمل يدوي مستعيناً ببعض الأدوات ، لإنتاج أصناف لها طابع مميز وصالحة للإستعمال أو للزينة وأنه عمل انساني وشخصي وعائلي بامتياز تصميما وتنفيذا وانتاجا، يضع فيه الحرفي عصارة جهده وفكره واتقانه وابتكاره ما يسمح بتسمية هذا المنتج حاليا: " هوية وتراث".
انها صناعاتنا ومنتجاتنا المحلية،المرتبطة بالارض وموادها الاولية ،وبالثقافة والعادات والتقاليد والمهارة والمستوى الاقتصادي. تنوعت هذه الصناعات بين المناطق والبلدان تبعا لما حباها الله به من ثروات طبيعية، حتى باتت السلعة تحمل اسم بلد المنشأ. وهي مسميات شاعت منذ القدم وارتبطت بالمكان، ونجد انفسنا حاليا نحاول ربطها بالزمان نسبة لسرعة التطور والنمو وتخطيهما كل المقاييس المتعارف عليها.
الحرفي هو الإنسان الذي يعمل وينتج بيديه ، وبمهارات متوارثة أو مطعّمة ، سلعاً يقوم بتسويقها بنفسه أو عبر وسطاء .
والحرفي المعاصر بات اليوم يتعامل بدون عقد مع " الوسيط " ، الذي يشتري منه السلعة ليعيد بيعها ، مع هامش من الربح . في حين أنّ هذا الوسيط كان شبه غائب لقرن مضى . والحرفة التي لا تزال ناشطة حتى اليوم لا تنتمي إلى التقليد ، طالما أنّ وظيفتها معاصرة وتدخل في سياق الدورة الإقتصادية في البلاد ككل ، كما أنّ الحرف الموروثة عن الأجيال السابقة ملزمة بالتقولب على أذواق معاصرة .
وكل هذه التغيرات التي طرأت على هذا القطاع ، والتي تفاوتت بين مهنة وأخرى ، والتي أصبحت اليوم جزءً لا يتجزأ من طبيعته المعاصرة ، بعدما إجتذبت زبائنه وأفقدته تدريجياً القدرة على المنافسة .
ولهذا السبب ، قام الحرفيون بعمليات إعادة تأهيل صامتة لمهاراتهم ، فلجأوا إلى إقتباس بعض ما قدمته التكنولوجيا الحديثة لهم من أدوات كهربائية ( في المفروشات ) أو من طاقة حرارية (صناعة الصابون البلدي والحلويات البلدية والحجر والخياطة وملابس النساء الغربية ) هذا يعني أنّ مهنهم لم تعد تقليدية ، لكونها تطعّمت بما أتى به التقدم البشري على المستوى التكنولوجي .
لذا ما نشهده اليوم يلخّص نوعاً ما سيرة القرن العشرين ككل ، إذ أنّ الحرف التقليدية قد إندثرت كلياً بينما الحرف التي قامت بعملية إعادة تأهيل جزئية ( في حرفة الصابون البلدي أو الخياطة أو النحاس ) او عملية إعادة تأهيل واسعة ( في صناعة الموبيليا أو صناعة الحلويات العربية ) هي التي تمكنت من تخطي قطوع التحول العالمي إلى عصر الصناعة .
إذاً لا مجال للكلام سوى عن حرف معاصرة ، فما هو قائم منها اليوم يصبّ في وظائف إستهلاكية معاصرة ، وزبائنها زبائن معاصرون ، بأذواقهم وذهنيتهم ، وحساسيتهم العامة .
وليس المطلوب إعادة أوضاع الحرفيين في لبنان ، إلى أحضان المجتمع التقليدي الذي ينتمون معرفياً إليه ، ولا إعادة المجتمع اللبناني إلى بنية المجتمع التقليدي على صعيدي الإنتاج والإستهلاك ، بل المطلوب هو مساعدة قطاع الحرفيين على الإنتقال بمهاراته الخاصة إلى الأزمنة المعاصرة .
فمجتمع الحرفيين مجتمع يعاني من ميل للإنطواء على الذات ومن نزعة للبقاء في فلك نماذج إنتاجية وإستهلاكية قديمة . من هنا ترهّل إنتاجه الذي يجد صعوبة أحياناً في الإنتقال الذهني إلى زمن جديد ، والمهني إلى قواعد جديدة , والإقتصادي إلى منطق السوق والمنافسة والعرض والطلب .
في الواقع، تشكل الحرف مدخلا ممتازاً لتنمية النساء وتمكينهن. وقد ساهمت أهمية الحرف التي تنجزها النساء في عملية محاربة الفقر والحد من إطلاق مشكلاته، وذلك بهدف تشجيع إنشاء المؤسسات الحرفية الصغيرة الحجم وتنمية الثقة بالذات والاعتماد على المواهب.
وإن الاهتمام التقليدي بالقطاع الحرفي يتجه أكثر نحو البعد الثقافي والتراثي للأعمال الحرفية على اختلافها ويعتبر النشاط في هذا القطاع جزءاً من الذاكرة الثقافية وربما الحضارية لكل شعب من الشعوب، فإن الاهتمام المطرد اليوم بهذا القطاع يعود أيضاً لأسباب اقتصادية اجتماعية.
وفي ظل العولمة يمكن لإنماء هذا القطاع أن يساهم في تحقيق التنمية المستدامة وفي تمكين فئات واسعة من المواطنين من الانخراط في العمل الاقتصادي دونما الوقوع في المنافسة الشديدة المفتوحة بين المؤسسات الإنتاجية الكبرى المدعومة بالتراكم الرأسمالي الضخم والذي لا يعرف الحدود.
ولا يجوز أن نتجاهل كذلك ان القطاع الحرفي يسمح باكتشاف المهارات والقدرات الإبداعية عند الإنسان والنساء تحديداً وهو بالتالي مجالاً لتنمية الموارد البشرية بامتياز.
وفي هذا السياق يظهر بوضوح بُعد التنمية المحلية والريفية الذين تطالهما جهود إنماء الميدان الحرفي، لأن هذا الميدان ما زال يستقطب فئات واسعة من المواطنين ويشكل قطاعاً اقتصادياً ذو أهمية .كذلك فإن المحافظة عليه وإنماءه يشكلان أهدافاً خاصة ضمن أية إستراتيجية وطنية للتنمية المستدامة.
إضافة إلى ذلك فإن الميدان الحرفي هو خزان التراث وجزء من ذاكرة المجتمعات الوطنية، وبذل الجهود فيه هو حلقة من سلسلة مبادرات تهدف إلى احترام خصوصيات المجتمعات والشعوب.
ومن مسؤولية الدولة أن تسعى لتنمية قطاع الحرف وأن تلعب دوراً إيجابياً ليشهد هذا القطاع تطوراً كبيراً وذلك من خلال تشجيع النساء والشباب للمشاركة والعمل بكل جهد على تطور موقع القطاع الحرفي في لبنان ، حيث أنّ للفن الحرفي بألوانه الابتكارية و التقليدية يجب أن يكون له مكانة عالية لدى الأفراد والدولة .
ولتحقيق ذلك التطور،على الدولة أن تساهم في دعم الحرفيين والمساعدة على تسويق منتجاتهم ضمن اقامة المعارض الحرفية و التواصل مع الحرفيين المهرة في مختلف مناطق وتشجيعهم للحصول على قروض ميسرة و اعتماد معايير عالمية لآلية الانتاج ،كذلك وتشجيعهم على الابتكار ودعوتهم للمشاركة إضافة إلى إقامة مراكز تدريب حرفية وبالتالي معاهد تعليمية لايجاد جيل جديد من الحرفيين انطلاقا من المعطيات الحديثة .
أمّا مسؤولية المجتمع الاهلي فلا تقل أهمية عن الدولة ، حيث أنّ التفاعل بينهما يحمل عناوين عدة يساهم المجتمع الاهلي في ترجمتها على الارض.
منها: توعية المجتمع على اهمية المحافظة على التراث وربطه بالسياحة، تنظيم المعارض والندوات والمؤتمرات، تشجيع المشاركة الدائمة بالانشطة العالمية، استحداث موقع متخصص على الانترنيت للحرف، التفاف الحرفيين حول نقابة متخصصة للمطالبة بحقوقهم ،وأخيرا التعاون مع وسائل الاعلام لتكريس الرابط بين السياحة والصناعات التقليدية .
ومع حداثة ربط السياحة بالصناعات التقليدية ، فالقرى الحرفية والمتخصصة منتشرة في أماكن متعددة من العالم، واحتلت الصناعات الحرفية مكاناً مرموقاً في واجهات الفنادق الفخمة، وصممت بعض المنتجعات والاستراحات على نمط المدن القديمة، وتنوعت فيها الاسواق ومعروضاتها. حتى ان البعض انشأ، بتصميم قديم، فنادق حديثة تحوي، مع صالة العرض محترفات لاطلاع السواح على كيفية العمل وتقنية الانتاج.
الحرفي ، هذا الإنسان العصامي هو إنسان يستحق كل التقدير . فهو منذ مطلع القرن الماضي مرّ بصعوبات لا حصر لها ، بدأت بإنهيار عالمه الإقتصادي وإنتهت بمحاولة سحقه ثقافياً . إلاّ أنه وبفضل مهارته المميزة وبفضل صورته عن نفسه وعن العالم الخارجي قد تمكّن من إجتياز العقود الصعبة . وها هو اليوم قد إستعاد مكانته المعنوية ومصداقيته السابقة ، بعد ما راجع المستهلك اللبناني المعاصر نسبياً مواقفه من المنتوجات المستوردة التي تحيط به من كل صوب .
ونظراً لهذا الحرفي الذي نجح في إستعادة مكانته وإعادة تأهيل نفسه وعمل على تنمية قدراته ومهاراته ، يجب أن نقدّم له رعاية خاصة لتطوير عمله فينبغي أن نؤمّن له أسواق وطنية وتشجيعه للمشاركة في معارض لتصريف إنتاجه ولإبعاده عن إرادات خارجية يكون مرتهناً لها أو مضطراً للإرتهان لها ، ونكون بذلك قد حققنا له الحصانة المطلوبة التي من خلالها قد يصل إلى الحرية والإستقلالية .